رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نصيحة فريدمان وتحذير كيسنجر

 في عموده بصحيفة نيويورك تايمز، يوم التاسع من مايو الماضي، وجه المعلق السياسي الأمريكي، توماس فريدمان، رسالة شديدة الوضوح، بأن أوكرانيا يجب أن تخدم المصالح الأمريكية، وليس العكس، وجميع أولئك الذين يريدون التمسك بالولايات المتحدة ويعتقدون أن واشنطن يمكن أن تكون سنداً حقيقاً لهم، سواء كانت أوكرانيا اليوم أو جزيرة تايوان في المستقبل، ليس لديهم سوى أحلام يقظة.. (الولايات المتحدة ليس لديها الشجاعة الكافية لتحمل النتائج.. يمكنها أن تؤجج النيران، لكنها لا تجرؤ على تحمل المسئوليات.. تُظهر الحسابات الاستراتيجية للولايات المتحدة في الأزمة الأوكرانية أنها قوية ظاهرياً، ولكنها ضعيفة داخلياً)، وعلى أوكرانيا أن تدرك أنها ضحية اللعبة الجيوسياسية التي تنغمس فيها واشنطن، فهي ـ أي أوكرانيا ـ تمهد طريقاً دموياً لمصالح واشنطن الجيوسياسية على حساب تنميتها الوطنية ومعيشة شعبها، لكن واشنطن (المتهورة) تستفيد استفادة كاملة من الصراع الروسي ـ الأوكراني.. إنها تمد الصراع إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتخلق حروباً وفوضى في جميع أنحاء العالم، وينبغي على أوكرانيا أن تستيقظ على هذا الواقع القاسي.
الولايات المتحدة لا تريد (السماح لأوكرانيا بتحويل نفسها إلى محمية أمريكية على حدود روسيا).. فهي يمكن أن تساعد أوكرانيا على طرد القوات الروسية قدر الإمكان، أو التفاوض من أجل انسحابها، كلما شعر قادة أوكرانيا أن الوقت مناسب، ومع ذلك، فإن (وقوع واشنطن في حب أوكرانيا) بطرق من شأنها أن تجعل الولايات المتحدة متورطة هناك إلى الأبد هو (قمة الحماقة).. لقد عبر فريدمان عن تفكير الولايات المتحدة تجاه الأزمة الأوكرانية، والمصالح الأمريكية حددها موقف الرئيس الأمريكي، جو بايدن، من خلال القول بأن ما يفعله فريق بايدن هو الحفاظ على مسافة ما بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، وكأن فريدمان يحاول طمأنة أولئك الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة ستكون حمقاء بما يكفي للانضمام إلى حرب من أجل أوكرانيا، (لا تحملوا الوهم الساذج، بأن الولايات المتحدة سوف تسفك الدماء من أجلها.. لا يوجد شيء من هذا القبيل.. ما تريده الولايات المتحدة هو تعظيم مصالحها الخاصة، عندما تنزف كل من روسيا وأوكرانيا.. الولايات المتحدة وأوروبا تواصلان دعم كييف، ولكن ليس على ما يبدو، لصنع السلام.. بل إن الحلفاء مستعدون لدعم حكومة زيلينسكي، طالما أنها تحارب موسكو حتى آخر أوكراني).
إن الحرب المطولة تناسب مصالح الولايات المتحدة، على أفضل وجه، فهي لا تخدم هدف واشنطن الاستراتيجي الطويل الأجل، المتمثل في احتواء روسيا فحسب، بل إنها تلبي أيضاً الشهية الهائلة للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي.. إن (إنقاذ أوكرانيا) هو التأثير الدراماتيكي الذي تريد الولايات المتحدة أن تخلقه، ولكن ما تريده حقاً، هو البقاء في الخلف واستغلال الفوائد.. أوكرانيا بالنسبة للولايات المتحدة، ليست سوى أداة لتلبية احتياجاتها.
من أجل ما سبق، وغيره مما هو أخطر، فقد أثار السياسي المخضرم، هينري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، تفاعلاً واسعاً الأسبوع الماضي، عقب اقتراحه أن تهدف مفاوضات السلام بين أوكرانيا وروسيا إلى إنشاء حدود في دونباس، كما كانت موجودة عشية الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي بدأ في فبراير الماضي.
قال كيسنجر، أمام تجمع من النخب الغربية في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي بسويسرا، إن هناك فرصة صغيرة لإنهاء الصراع المسلح في أوكرانيا وإيجاد تسوية سلمية، قبل أن تنفصل روسيا عن بقية أوروبا إلى الأبد، وتصبح حليفاً دائماً للصين، وأضاف الدبلوماسي المخضرم، البالغ من العمر 98 عاماً، عن الأزمة، (يجب أن تبدأ المفاوضات بشأن السلام في الشهرين المقبلين، أو نحو ذلك، قبل أن يخلق الصراع اضطرابات وتوترات لن يتم التغلب عليها بسهولة)، وستحدد النتيجة بقية علاقات أوروبا مع روسيا وأوكرانيا على حد سواء، (من الناحية المثالية، يجب أن يعود الخط الفاصل إلى الوضع السابق.. أعتقد أن مواصلة الحرب إلى ما بعد تلك النقطة، لن تحولها إلى حرب حول حرية أوكرانيا، التي خاضها حلف شمال الأطلسي بتماسك كبير، بل إلى حرب ضد روسيا نفسها).
كيسنجر، صاحب النهج الواقعي السياسي للعلاقات الدولية ـ الذي يضع المصالح العملية للدول قبل مواقفها الأيديولوجية ـ أشار إلى أنه قبل ثماني سنوات، عندما بدأت الأزمة الأوكرانية بانقلاب مسلح في كييف، دعا إلى أن تصبح أوكرانيا دولة محايدة و(جسراً بين روسياً وأوروباً، بدلاً من أن تكون خطاً أمامياً لتجمعات الدول داخل أوروبا).. لكن، وبدلاً من ذلك، سعت كييف إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي كهدف استراتيجي، مما مهد الطريق للأعمال العدائية الحالية.. إنه على الغرب أن يضع في اعتباره الصورة الأكبر، وأن يتذكر أن (روسيا كانت لمدة أربعمائة عام جزءًا أساسياً من أوروبا).. وحذر من أن القارة يجب أن تكون حذرة (حتى لا يتم دفع روسيا إلى تحالف دائم مع الصين).
وتطرق كيسنجر إلى المواجهة المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة، قائلاً، إن البلدين ينظر كل منهما الآن إلى الآخر، على أنه منافسه الاستراتيجي الوحيد القابل للحياة على الساحة العالمية.. وقال إن سباق التسلح بين البلدين سيناريو مقلق بشكل خاص للعالم بأسره.. (إن الصراع مع التكنولوجيا الحديثة الذي يتم إجراؤه في غياب أي مفاوضات سابقة للحد من التسلح، بحيث لا توجد معايير محددة للقيود، سيكون كارثة للبشرية).
حديث كيسنجر، لم يعجب الرئيس الأوكراني، فولدومير زيلينسكي، الذي رد قائلاً: (بصرف النظر عما تفعله الدولة الروسية.. هناك من يقول: لنأخذ مصالحها في الاعتبار، هذا العام في دافوس، سمعنا مرة أخرى، على الرغم من سقوط آلاف الصواريخ الروسية على أوكرانيا، وعلى الرغم من عشرات الآلاف من الأوكرانيين الذين يُقتلون، على الرغم مما حدث في بوتشا وماريوبول وغيرهما من المدن المدمرة، ومعسكرات التصفية التي أقامتها الدولة الروسية والتي يقتلون فيها ويعذبون ويغتصبون ويهينون.. لقد فعلت روسيا كل هذا في أوروبا، لكن مع ذلك، في دافوس، على سبيل المثال، يخرج كيسنجر من الماضي العميق ويقول، إن قطعة من أوكرانيا يجب أن تُمنح لروسيا).. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.