رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تموت القضايا من غير الفن                               

منذ أكثر من عشرة أعوام لم تمتد يدى لفتح التليفزيون فى بيتى واكتفيت بالإذاعة، لكن مع الكحك وهيصة العيد فى بيت أخواتى كان التليفزيون «شغالًا» يعرض الفيلم القديم الممتع «الحموات الفاتنات» إنتاج عام ١٩٥٣، وتذكرت أن هناك فيلمًا آخر ظهر فى نفس الاتجاه لاحقًا عام ١٩٥٩ هو «حماتى ملاك»، بطولة إسماعيل يس ومارى منيب، تناول الفيلمان شخصية «الحماة» بعد انقضاء نحو ألفى عام على طرح هذه القضية عام ١٤٠ قبل الميلاد على يد الكاتب الرومانى «ترينتوس»، فى مسرحية له باسم «الحماة».

بطبيعة الحال فإن التطور الاجتماعى قد تجاوز تلك القضية بعد أن انفكت قبضة الأسرة عن حياة أبنائها ولم يعد للوالدين ذلك التأثير، لكن السبب الرئيسى فى اختفاء تلك القضية وغيرها أنها لم تجد تجسيدًا فى الفن، وعلى سبيل المثال فإن عددًا من مسرحيات شكسبير التى تناول فيها الصراع على العرش ما زالت حية رغم انقضاء زمن العروش، وهكذا نجد أن القضية قد اختفت فى الواقع، ومع ذلك ظلت حية، لأن الفن أقدم على تجسيدها ببراعة واقتدار.

فى مصر كانت هناك طائفة من أصحاب الحنطور وصناع تلك المركبة، وكانت هناك ورشة لتلك الصناعة عام ١٨٥٠، وظل الحنطور منتشرًا حتى عام ١٩٠٥ عندما بلغ عدد السيارات فى مصر مائة وعشرة، وراحت تنتشر إلى أن اختفى أصحاب الحنطور.

وكان اختفاؤهم مأساة إنسانية، وتجاوز التطور قضية أولئك البشر والحنطور، وكان من الممكن أن تظل صورهم وشخصياتهم وآلامهم لو أن كاتبًا أو فنانًا كبيرًا جسّد شيئًا من أولئك البشر فى أعمال فنية، لكن ذلك لم يحدث، ومن ثم ماتت القضية من غير الفن.

لم يرصد أحد لنا مأساة المغنى الشعبى، وقد نفاه بعيدًا التطور ودخول الراديو، سوى نجيب محفوظ فى مشهد عابر فى مطلع روايته «زقاق المدق»؛ حين يضع المعلم «كرشة» الراديو، وكان اختراعًا حديثًا، فى المقهى ويطرد المغنى الشعبى صاحب الربابة. 

كان ذلك المشهد تسجيلًا لمأساة عدد كبير من الرواة الشعبيين الفنانين، أزاحهم التطور إلى الخلف، لكنهم اختفوا، ليس بفعل التطور فحسب، بل لأن أحدًا لم يجسد شخصياتهم ولم يكتبها ولم يُعِد خلق مآسيهم، فاختفت القضية من غير الفن، وكان من الممكن أن تختفى قضية سطوة الرجل العائلية مع التطور، لولا شخصية «سى السيد» التى خلقها نجيب محفوظ فى «الثلاثية»، وبالفن عاشت القضية.

الواضح أن كثيرًا من القضايا تذبل وتموت إذا لم يُولِها الفن اهتمامه، ولم يمر عليها بلمسته السحرية التى تطيل فى أعمارها وتمد فى حياتها، وحده الفن يمنح القضية حياة أخرى، وإذا لم يُولِها اهتمامه اختفت تحت عجلات التطور الاقتصادى والاجتماعى والثقافى، ولكى تظل القضية، أى قضية، حية، لا بد أن تتجسد فى «شخصية» نحس أنفاسها ونقاسمها آمالها وأحزانها، لذلك نحن نقف بانبهار أمام التماثيل الفرعونية.

لكن يظل فى داخلنا السؤال: «مَنْ أنتم؟»، لأن فن الكلمة لم يقدم لنا شخصية حية من قدماء المصريين نشعر بعذابها وطموحها وبقوتها وضعفها، يبقى الفن الاختراع الأعظم ضد النسيان، والاختراع الأعظم الذى يقف فى مجرى الزمن، يلتقط لحظاته، ثم يرفعها عاليًا عبر العصور.