رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الديون والتحديات الراهنة فى الاقتصاد

تلجأ الدول إلى الاقتراض فى حال عجزها عن القيام بجميع النفقات المطلوبة منها، بمعنى أن الإيرادات أقل من النفقات، وهو ما يعنى وجود عجز فى الموازنة العامة لهذه الدولة أو تلك، كما أن الدول تلجأ إلى آلية الاقتراض حين تكون بصدد خطط اقتصادية تستهدف التنمية. ازداد اللجوء إلى هذا النوع من التمويل فى ظل تداعيات أزمة كورونا من قبل الدول النامية والدول المتقدمة على السواء، وهذه ليست المرة الأولى التى تتفاقم فيها أحجام الديون العالمية خلال الخمسين عامًا الأخيرة، فهى المرة الرابعة، ولكنها قد تكون الأكبر والأوسع نطاقًا والأكثر إلحاحًا، وذلك وفقًا للبنك الدولى. 

فى تسعينيات القرن الماضى توسعت اليابان بالاقتراض، وهو ما جعلها من أكبر الدول المدينة، وبلغ حجم الديون المستحقة عليها ٢٤٠٪ من الناتج المحلى الإجمالى. وتعد نسبة الدين إلى الناتج المحلى، المقياس الأكثر شيوعًا لدى الاقتصاديين للمقارنة بين ديون الدول، ويشترط ألا تتجاوز ٦٠٪ للدول المتقدمة، و٤٠٪ للدول النامية، وعلى الرغم من تجاوز اليابان هذه النسب أضعافًا مضاعفة، إلا أنها لم تتعثر فى السداد، فهذه الأموال التى اقترضتها، أسهمت فى حركة ودوران النشاط الاقتصادى فيها، ونتجت عنها نتائج اقتصادية، مثل تحفيز النمو وزيادة الناتج المحلى الإجمالى. فالديون تصبح عبئًا كبيرًا عندما لا يكون الجزء الأكبر منها موجهًا للإنتاج والصناعة.

لم يكن العالم قادرًا على مواجهة أزمة جديدة بعد الأزمة العالمية ٢٠٠٨، وفى ظل أزمة كورونا تأثرت الاقتصادات فى معظم الدول تأثرًا سلبيًا، والتى عانت من انكماش وانهاك اقتصادى، لا سيما فى الدول الناشئة التى يعانى أغلبها هشاشة فى هيكله الاقتصادى، ومن هنا ازدادت الحاجة إلى التمويل، سواء عبر الاقتراض الخارجى أو الداخلى، لا من أجل إحداث التنمية فى المقام الأول، ولكن من أجل إكساب الدول القدرة على تمويل الاحتياجات الأساسية للأفراد، فهناك أكثر من ١٢٠ مليون شخص فى العالم يعيشون تحت خط الفقر نتيجة للوباء، فارتفعت الديون إلى ٣٠٣ مليارات دولار فى نهاية ٢٠٢١، ولا تزال الديون مرشحة للارتفاع بعد الحرب الروسية الأوكرانية وبمعدلات فائدة أكبر.

يعانى العالم الآن من معدلات تضخم لم يصل إليها منذ عدة عقود، وهو ما أجبر على الاستمرار فى اتباع سياسة نقدية انكماشية ورفع سعر الفائدة، ومن ثّم خروج الاستثمارات من أدوات الدين فى اقتصادات الدول الناشئة، واتجاه هذه الاستثمارات إلى الدولار، وهو ما يكسبه قوة أكبر يقابلها انخفاض قيمة العملات لكثير من الدول، وبالتالى ارتفاع الديون وخدماتها، وما يزيد من أعباء هذه الديون أن البلدان النامية قد ارتفعت الديون فيها إلى أعلى مستوى منذ خمسين عامًا تقريبًا إلى ٥٠٪ من إيراداتها الحكومية، وهذا يعنى أن بعض هذه الدول سيتعرض إلى أزمات مالية فى الأجلين القصير والمتوسط، وهو ما يدفعها إلى الاستمرار فى مزيد من السياسات المالية التقشفية، وبالطبع لم تكن هذه الدول تتوقع هذا النوع من الصدمات، خاصة أن بعضها قد بدأ فى تحقيق نمو واستقرار اقتصاديين، ويمكن القول إن العالم عمومًا فى حال استمرار الحرب الروسية الأوكرانية- ويبدو أن ذلك هو المتوقع- سيدخل فى أزمة مالية أكبر وتراجع لمعدلات النمو، وارتفاع فى معدلات التضخم وأسعار مدخلات الإنتاج، ومما يزيد الأمر سوءًا أن الصين أعلنت عن ظهور كورونا مجددًا ببعض المقاطعات، ويبدو الأمر وكأن الاقتصاد العالمى قد دخل فى دائرة مفرغة من الأزمات. 

أود الوقوف عند ما تناثر من حديث يعبر عن القلق فيما يخص حجم الديون المصرية، والتى بلغت ١٤٥ مليار دولار بنهاية النصف الأول من السنة المالية الحالية، وهذا ما أعلنه البنك المركزى المصرى، ولكن حتى لا نسرف فى القلق، لا بد من معرفة حجم الديون إلى الناتج المحلى الإجمالى، فنجد أنه تقريبًا حوالى ٣٥٪، أى أنه فى الحدود الآمنة، كما تكمن الخطورة عند التخلف عن سداد هذه القروض وفوائدها فى المواعيد المتفق عليها مع المؤسسات المالية الدولية، وهذا لم يحدث. فمصر تسدد الديون فى المواعيد المجدولة لها وبانتظام، وهو ما يجعل مؤسسات الائتمان الدولية تقوم بتصنيف الاقتصاد المصرى كاقتصاد مستقر، وقد استخدمت مصر هذه القروض فى الإنفاق على المشروعات القومية فى القطاعات المختلفة، لا سيما فى البناء والتشييد، ولكن حتى لا تتحول الديون المصرية إلى عبء كبير فى المستقبل، كان لا بد من التفكير فى خطط تتيح للاقتصاد المصرى القدرة على تحول أكبر نحو التصنيع والإنتاج ومن ثمَّ التصدير، عبر مجموعة من المحفزات، وهذا بالفعل ما أفصح عنه الرئيس السيسى فى إفطار الأسرة المصرية، أن مصر ستتجه نحو توطين الصناعات، وتشجيع القطاع الخاص، ووضع محفزات بإعفاء من الضريبة لمدة خمس سنوات، ومنح أراض كحق انتفاع، وهى خطط تحول مصر فى المستقبل من الاقتصاد شبه الريعى إلى اقتصاد إنتاجى- يحقق الاكتفاء الذاتى أو جزءًا مما تحتاجه الحياة فى مصر- قادر على امتصاص الصدمات الخارجية، وتجنب آثارها بمرونة ويسر أعلى، وهذا ما نحلم به لوطننا.