رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر إبراهيم عبدالفتاح في «جزيرة غمام»: الشجرة الأصيلة تنمو إلى الأسفل

إبراهيم عبد الفتاح
إبراهيم عبد الفتاح

هناك حكمة تقول، إن الصدفة الجميلة هي الشيء الصحيح الذي يحدث في الوقت المناسب.. لذا نجد المزارع يصل إلى ذروة فرحته، وهو يشاهد ثماره الناضجة في موعدها، وهي تبتسم له من على أشجارها.

والشاعر إبراهيم عبد الفتاح ليس ثمرة، هو الشجرة ذاتها التي تحاول أن تُخفي سيقانها وفروعها، بينما تمنح جذورها البراح لنفسها لتتمدد في الأرض كما تحب، وكأنه يؤمن بالمقولة المُلهمة لابن عطاء الله السكندري: «ادفن وجودك في أرض الخمول.. فما نبتَ ممن لم يُدفن، لا يتم نتاجه».

ربما كان ذلك خيارا ارتضاه «إبراهيم» لحياته على المستويين الإنساني والإبداعي، هو لا يحب الصخب، يُفضل أن يتجلى جوهره لا مظهره، رغم طاقاته المتعددة التي جعلته يجرب يمينا وشمالا، لكن في الأخير سيجد من يحاول التفتيش في أوراقه، أنه أمام فنان متحقق بالمعني الشمولي والفلسفي، وشاعر تمثل أعماله –رغم قلتها نسبيا- إطلالات خاطفة، تترك أثرها على المدى البعيد.

حوار مع الشاعر الفنان إبراهيم عبدالفتاح | صحيفة الرأي
ابراهيم عبد الفتاح

لقد اختار الفلسفة منهجا دراسيا، وسلك طريق الكتابة المسرحية، وأحدث انطلاقات مثيرة مع قصيدة النثر، لكنه لم يستطع إخفاء عبقريته في كتابة الأغنية، رغم رفضه الدائم بأن يُصنف شاعرا غنائيا، وكأنه يخشى من الإطار أو التنميط أو الظهور في سياقات تمنحه بريقا لا يفضله.

السيناريست عبد الرحيم كمال ينشر البوستر الرسمى لمسلسل جزيرة غمام - اليوم  السابع
بوستر جزيرة غمام

 

آخر تلك الإطلالات، هي عودته لكتابة الأغنية بعمل أكثر ثراءً واتساعا، وهو أغنية تتر مسلسل «جزيرة غمام»، الذي يعرض حاليا على قناة الحياة، وهو تأليف الكاتب عبد الرحيم كمال وإخراج حسين المنباوي، وموسيقى شادي مؤنس، وإنتاج شركة «سينرجي».

أسباب عديدة تدفعني لوصف أغنية «جزيرة غمام» بالمغامرة، أهمها أنها أعادت الروح لفن أغنية التتر الذي شهد أوج تألقه في مسلسلات التلفزيون المصري التي كتب قصصها وسيناريوهاتها، كتاب كبار أمثال أسامة أنور عكاشة ومحمد جلال عبد القوي ومحسن زايد وغيرهم، وأصبحت مثل الأشجار التي تنمو للأسفل، وكلما تجذّرت في الأرض تصلبت في قرارها وأينعت سيقانها ببديع الثمار، وصارت مثل الفولكلور، لا يختفي ولا ينزوي ولا يُنسى، ومن منا لا يذكر أغنيات مسلسلات مثل «هوانم جاردن ستي، وزيزينيا، وحديث الصباح والمساء» وغيرها؟

يمكن أن نقول إن جميع أسباب النجاح قد اجتمعت معا في أغنية تتر «جزيرة غمام»، بداية من رشاقة التيمة وتحقق الفكرة وملاءمة المفردات لأجواء العمل، فضلا عن تصدي الفنان الكبير علي الحجار لغنائها، مواصلا سلسلة جمالياته التي صارت أيضا علامات في تاريخ أغنية التتر.

ورغم كتابة «إبراهيم» التي تتنفس حرية وتجريبا وانسيابية، تضع تلك الحرية عليه قيودا، فهو لا يستطيع أن يسلك الطرق السهلة في الكتابة، لا يستطيع أن يكتب في المناطق الآمنة ولا أن يدور حول المشاعر المطمئنة، ولننظر على سبيل المثال إلى عدد من أعماله في الأغنية: «لما الشتا يدق البيبان» التي غناها علي الحجار، و«وحدي» التي غنتها وردة، و«لو بإيدي» التي غناها وجيه عزيز، وغيرها وغيرها، سنجد قاعدة أساسية تجمعها تتمثل في الاختلاف والتنوع والنفَس الخاص.. هي قصائد بنات ذواتها وتجاربها وحالاتها وهمومها وأفراحها.

 

في أغنية «غمام» سنشعر بتلك القاعدة في أبهى صورها: سنرى الرصانة والبناء واللغة والتمكن، وأريد أن أتوقف هنا عند البناء الذي قد يبدو تقليديا، لو نظرنا إليه كهيكل عام للنص، لكن تمنحه تلك الجزالة مرونة وتفجرات، فيعتمد البناء على «كورال» و«موال» و«مغني»، ويرتبط كل منهم بالآخر، ارتباطا عضويا ووجدانيا.

Description: C:\Users\pc\Desktop\_315x420_60a94071016d14e070519ecf4a09c6833131305e3453e09b63068680534e8e98.jpg

ويأتي نص القصيدة كالتالي: 

كورال

حط الغمام ع الجزيرة

بدل هواها وطباعها

دار ع النفوس الفقيرة

بالذل والخوف طبعها

وبدر بين  الخلق سيرة

مين ضدها ومين تبعها 

وقت أما تعمى البصاير

ماحيلتنا غير البصيرة

موال

البحر طرحه عكار وقف ع المي ماجراشي

حدف غريب ع البر يحكي كلام ماجراشي

يا بحر فيك مننا صياد وفيك غرقان

ومهما دار الزمان مسيرك تصفى ماجراشي

المغني

البحر ده كان جبل نزل عليه الحب

والصخر لان وانحنى من عطفه ع المجاريح

يا ناس قلوبكم حجر ولا انتوا من غير قلب

كنا تلاتة رفاقة واتفرقوا في الريح

وحداني بيتي الخلا والقلب مالهوش حد

غيرك حبيبتي اللي وحدك ساكنة في حواشيه

لا سقف عندي يحوش عني لظى أو برد

ولا عندي باب توحشه دقة إيديكي عليه 

لا نتناول هنا أغنية إبراهيم عبدالفتاح، من وجهة نظر تحليلية نقدية، إنما من زاوية جمالية، وزاوية اللحظة، ولن نبالغ لو اعتبرنا أن تلك الكتابة هي واجب الوقت، الذي أدركه شاعرنا، فهو يكتب ليعيد لفن أغنية التتر أمجاده، بنص يحمل لكنة صعيدية شديدة الخصوصية.

نلاحظ هنا الترادفات ونظام التقفية الرشيق والتقسيمة الفنية بين الأبيات، ونرى مستوى التخييل والبلاغة الراشد والذي لا يميل إلى المباشرة إنما إلى المجاز البسيط والحِلْيات الفنية الأنيقة، وهي كلها سمات جمالية تمنح أغنية «غمام» حضورها ورونقها وانتشارها، وتجعلها تتبارى مع أبرز وأهم أغنيات التترات التي جرى غناؤها باللكنة الصعيدية لكبار الشعراء والمطربين، وهو ما يدفعنا للاحتفاء بتجربة «غمام» التي تخوض بالفعل مغامرة، وكأنها تريد أن تقول: «نعم.. البقاء للأجمل.. والأصالة لا تتعارض مع التحديث».

 

أشهر تترات إبراهيم عبد الفتاح: