رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاهن أرسانيوس.. مساء الخميس 7 أبريل

دعانا أخى المهندس حسام حبشى إلى إفطار رمضانى فى بيته مساء الخميس ٧ أبريل. كنا مجموعة أصدقاء قدامى فرقتنا البلدان واللغات بين البرازيل والمجر وألمانيا ومصر. وجلسنا إلى منضدة الطعام نستعيد ذكريات الصداقة التى لم تخب، دار الحديث بعدة لغات، وأحيانًا بكلمات مرتبكة ما بين الإنجليزية والعربية وغيرهما، مع ذلك، وربما بسبب ذلك، لم ينقطع ضحكنا، ولا توقف فيض المحبة الذى غمر النفوس، اجتازت المحبة كل الفروق وحلقت فوق اللغات والثقافات المختلفة. 

فى ذلك الوقت تقريبًا كان الكاهن القبطى أرسانيوس وديد يسير على كورنيش سيدى بشر فى الإسكندرية، فتقدم نحوه شخص وطعنه فى رقبته، نقل الكاهن على أثرها إلى مستشفى القوات المسلحة بمنطقة مصطفى كامل، لكن روحه الطاهرة فاضت عقب وصوله بقليل.

هذا الكاهن القبطى نفسه هو الذى كان يوزع قبل أيام من وفاته كراتين شهر رمضان على إخوته المسلمين، ويبارك لهم الصوم بابتسامة لم تفارق وجهه. كنا فى بيت أخى حسام نقهقه، ونتبادل الآراء، بمئات الكلمات المختلفة فى صالة ضيقة، ولم يمنع ذلك القدرة على المحبة، بينما لم تتمكن لغة واحدة وتاريخ واحد يجمع شخصين من صد الكراهية التى أفضت إلى الجريمة. 

الصالة الضيقة اتسعت للكثيرين، بينما لم يتسع بحر الإسكندرية العريض لشخصين، أحدهما مجرم مشبع بالغل. وبوسعى بطبيعة الحال أن أقول ما قالته الكنيسة المصرية فى نعيها: «إن هذه الأحداث لن تنال من قوة وترابط نسيج الوطن»، وأن أقول ما أعلنته الطائفة الإنجيلية من أن: «مثل هذه الأعمال الشريرة لن تنال من صلابة الوطن ومحبة المصريين الأصيلة».

نعم، لكن ذلك وحده لا يكفى، وحجم الجريمة وبشاعتها تدعونا بقوة لإعادة النظر فى برامج التعليم، وفى الوضع الثقافى، وفى الحالة الإعلامية التى ما زالت تلمع تحت سقفها أصوات شيوخ سجدوا شكرًا لله على هزيمة مصر فى ١٩٦٧. قُتل الكاهن أرسانيوس وديد وقد تجاوز الستين بقليل، من دون أى ذنب، وكان كما نعاه البابا تواضروس: «مشهودًا له من كل الذين تعاملوا معه فى منطقة خدمته، من كل الشعب، مسلمين وأقباطًا، صغارًا وكبارًا». 

لقد عكرت الجريمة البشعة فرحة شهر رمضان، ودفقت السواد على صفاء النفوس، ومعظم هذا السواد من القلق على الوطن من المساعى الرامية لتمزيقه بالطائفية. لا بد من مناهج تعليم جديدة يتعلم بفضلها التلاميذ منذ الصغر أن تاريخ الوطن هو تاريخ ضفيرة مسلمة قبطية، وأن لدينا فى الثقافة سلامة موسى وطه حسين معًا، محمد مندور ولويس عوض معًا، أبوالمعاطى أبوالنجا وإدوار الخراط معًا، مارى منيب والقصرى معًا، عبدالمنعم رياض وباقى زكى يوسف، هذا لأن التعليم هو «مستقر الثقافة» كما قال العظيم طه حسين.

ولا بد لنا من ثقافة المحبة يتشربها الجميع منذ الصغر، هذا أو أن لغة واحدة وتاريخًا واحدًا لن يمنع جريمة، حتى لو كانت هناك أعداد محدودة من الأصدقاء هنا وهناك، تلتقى وتشعل شموع الود، وتتبادل التهانى بشهر رمضان بمختلف اللغات وتبنى بالكلمات المكسرة محبة صلبة، بينما يفاجئنا البعض بأنه لا يستطيع بلغة واحدة أن يجتاز الكراهية السوداء، ولا أن يتذكر أن أولى كلمات القرآن الكريم هى: «بسم الله الرحمن الرحيم» وفيها يتكرر معنى الرحمة، أولًا وقبل كل شىء.