رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ألا نستحق زيارة يا مريم؟.. «الدستور» تعيد نشر رواية «أوراق العذراء» لـ«مجيد طوبيا» (الفصل الرابع)

مجيد طوبيا
مجيد طوبيا

تعيد «الدستور» نشر  فصل جديد من رواية «أوراق العذراء»، التي تعود إلى عام ١٩٦٨ للكاتب والأديب الراحل  مجيد طوبيا، والذي وافته المنية صباح اليوم.

ألا نستحق زيارة يا مريم؟

علمنى صمت الرمال وركود مياه القناة، أن أتأمل وأتأنى لا أهمل أصغر التفاصيل، كلمة «تقريبًا» لا تصلح للحياة العسكرية ولا للحروب.

وعلمنى «المنظار المعظم» من اسمه المتداول بين الجنود، أنه يقرب البعيد ويكشفه ويقدمه نحوى من خلال العدسات وفوق خطوطها الرأسية والأفقية المتعامدة المرقمة والتى تحدد لى بكل دقة، موقع هذا الشىء وزاوية ميله عن موقعى.. وعندما أهاتف طاقم السلاح لضبط نيشان أسلحتهم عليه لابد أن أكون دقيقًا لا تقريبًا.

الخطأ الطفيف فى القراءة يفرق عشرات الأمتار على أرض الواقع.

أعرف أن العدو يراقبنا بمنظار مماثل من خلف هذه الأكوام.. تاجر السلاح الذى ابتعنا منه واحدًا ويهمه استمرار حروبنا حتى ينتج أكثر ويثرى أكثر على حسابنا.

فى ساعات الليل والنسمات الطرية تهب من صفحة القناة.. يحلو لى توجيه المنظار نحو السماء أبحث عن أقمار الروس والأمريكان، أطمئن على وجودهم وأنهم يراقبون تحفزنا وإصرارنا على قتل بعضنا البعض.

تخيلت أن الأقمار تدوّن طلبات الشراء الجديدة، وتعد قوائم الأسعار مع تخفيضات تناسب العملاء الدائمين.

أكثر ما كنت أحلم به وأنا فوق الشجرة هو طبق «رز بلبن» منذ توفيت والدتى وأنا محروم من طعم الرز باللبن.

صرت أجزم بأن الأيتام لا يأكلونه. هل تجرؤ زوجة أب على صنع رز بلبن لأطفال زوجها. إنه معيار الحب الحقيقى لمن أرضعت وعند فطام طفلها بكت عليه أكثر مما بكى هو من فراق حضنها.

ضج عم نصحى البقال من إلحاح والدتى على وجود منتج نادر وهو بودرة الفانيليا.

كان يتندر على طلباتها ويسخر من الذين تعلموا فى مدارس الراهبات بالبندر.

لو تذوق عم نصحى الرز باللبن من يد والدتى، لرد زوجته إلى بيت أهلها ومعها سد الحنك الذى اشتهرت بصناعته.

وقفت أرقب اللبن كما طلبت.. وبعد قليل شاهدت مندهشًا تغيرات تحدث على سطحه.. غشاء رقيق يتكون ثم يتكرمش خفيفًا ويرتفع.. نفخت فيه لكنه مع ذلك ظل يعلو ويعلو حتى فار وانسكب على سطح البوتاجاز.. ذعرت ولم أفهم السبب ووقفت حائرًا.

كل شىء كان باللون الأبيض.. الأسرّة والملايات والحوائط ومعاطف الممرضات.

عانيت كثيرًا كى أتذكر كيف خرجت من اللون الأزرق وطعمه المالح لهذا الفيض الأبيض وطعامه الماسخ قليل الملح والبهارات.

ما إن صرح كبير الأطباء بالخروج، حتى لملمت نفسى هاربًا من ضجيج الزوار وهلوسة الناجين من الطائرات وباقات الورود المصطنعة التى تحملها نجمات السينما وهن فى زيارة تصحبها كاميرات التليفزيون.

رفعت «منيرة» رأسها عن مقالتى وابتسمت.

يا إلهى.. كل هذه الصوفية عن العذراء وظهورها غير مؤكد!!

ماذا كنت ستكتب إذا رأيتها فى الحقيقة؟

صدقينى لو قلت لك.. رأيتها!!

رأيتها فى عيون أمهات المفقودين.. فى دعوات المرضى وأصحاب الحاجات.

الأرامل واليتامى والذين يعيشون فى ضيافة أقربائهم بالحجرات الضيقة والرزق الشحيح.

رأيتها عندما تأكدت أنك طاهـــرة مثلها، وأن اتهام العفيفات فى شرفهن يهيل على القلوب صديداً وصدأ يمنعها من رؤية النور.

المرأة الذكية القوية تثير مخاوف الخصيان.

تجعلهم يتساءلون هل هذه من أمرناها بضم ساقيها حين تجلس.. ألا تتحدث مع الغرباء؟.

وأن صوتها عورة وشعرها عورة وبروز نهديها خارج النطاق جريمة فيدرالية!

كيف صارت مستقلة هكذا؟!

كيف استغنت عن تعويذاتنا؟؟

هل فضّت بكارة الحجاب القماشى، وفوجئت بما فيه من حبّات أرز وذرة عويجة.

هل اكتشفت أن خيال المآتة يرتدى ملابسه المهيبة فوق أعواد من القش؟

ولأنها ضعيفة فى نظرهم حاربوها بأضعف الأيمان.. اللسان!

إشاعات ونميمة. أخبار مغلوطة ودسائس سابقة التحضير.

حاصروها ورجموها بحجارة من سجّيل، فسقطت متعبة باكية، ومن بعيد أشاروا إلى الدماء التى أدمت ساقيها وصاحوا.. دم العفّة! ها هو دليل عدم عذريتها!

لماذا دس «جمعة» خنجره بين طيّات ملابسى؟! ألم يكن من حقى التعرف على «منيرة» دون عنوان رئيسى!

لم يكن العنب مُرًا بل أيدى الزعران قصيرة.

مارست الجنس فى بيت «أم وزة» دون مقدمات وخرجت دون تبعات.. كلانا حر فى قراره. كلانا سعيد.

أعلم أن المتعة فانية.. وأى تدخل لتغيير صيرورتها يتسبب فى تحويلها إلى ألــم.

المتعة تصرُّف بشـــرى يسكـُن عالمنا الأرضى، أما الألــــم فهو ارتقاء فوق مقدرة البشر.

الألم الجسدى لا يتناسب مع مسبباته التافهة، الأيام كفيلة بنسيانه.

لكن الألــم النفسى جروحه غائرة يُفقد الحياة طعمها ومُتعها. 

النكسة حطمت قلوبنا وقبل ذلك حطمت أجمل برواز كان يُزين حائط أحلامنا.

المتشحات بالسواد وعيونهن ترقُب السماء. المتطلعات.. نحو قبّة الكنيسة.

ألا يعاود الضيف زيارة من استضافه وأظهر له كرم الضيافة؟.. فلماذا لا تظهر العذراء وتزور أم النور البلد الذى استقبلها وحماها من زلافة لسان كهنة المعبد والصيارفة قساة القلوب؟.

لماذا لا تطرق السيدة «زينب» بيبان القاهرة التى رعت آل البيت النبوى من معركة الصراع على الخلافة؟.

ألا نستحق زيارة وربتًا على أكتافنا المتعبة بعد مشوار الرمال الصفراء؟.. نعم نستحق.

تركتُ اللوكاندة وذهبت لأشارك «سمير» بلدياتى، شقته المتواضعة وإيجارها الضئيل.

اخترت سمير لأنه يعلم نقاط ضعفى ورآنى من قبل مهزومًا منسحبًا منسحقًا، ويعلم بالتحديد مواضع كل الطعنات فى جسدى وروحى والبطحات فى خبايا رأسى وعقلى.

أخطاؤنا تتشابه حتى المؤجلة منها. لكن ما يعجبنى فيه أنه لا يعذب ضحاياه.. يتركهم للقدر مع ابتسامة مصطنعة.

ينفض يديه بعد كل جريمة عن اقتناع كامل بأن ما يدور حوله هو أحسن ما فى الإمكان.. قدرى حد العبث وماجن يؤمن بتدخلات السماء.

يأكل كمن يتناول آخر زاده.. يضحك كمن اكتشف أن أحبال صوته تستطيع الصراخ.. يشرب معى حتى أظن أنه يسكر لى وله!!

لا أعلم متى يذهب لعمله ومتى يعود!! متى تواجدنا سويًا نكتشف أننا نعيش فى شقة واحدة!!

اصطدامه بقطع الأثاث عندما يتجوّل فى الصالة، يبعث فى نفسى الراحة والشعور

بأن هناك من يسبح بجوارى وأنا أعبر القناة.

كل من قابلنى على مشارف القرية تمتم بسبحان الله.. بعضهم أضاف وهو ينظر إلى السماء: يخرج الحى من الميت والميت من الحى.

أمام المصطبة وجدت والدى وهو يتوسط جمعًا من الأقارب والجيران.. من يهمنى أمرهم جالسون فى المشهد.. ربما كان «نبيل» فى المدرسة أو أرسلوه لإحضار صينية الشاى.

عندما بكى والدى على كتفى بكاء لا يشبه فرحة عودة ابن كان فى حكم الشهيد تسلل القلق إلى قلبى وسألت عن «نبيل».

استدعانى قائد الوحدة العسكرية، وقرأ علىّ من أوراق كانت أمامه:

حسب اللوائح يحق لك التقدم بطلب الإعفاء من استكمال الخدمة العسكرية، بعد وفاة أخيك الشقيق، فأنت العائل الوحيد لوالدك وشقيقتيك القاصرتين.

أديت له التحية العسكرية وأمسكت بالقلم لأكتب:

والدى يمتلك سبعة أفدنة تدُر عليه دخلًا محترمًا.. خمسة منها نصيبه من الإصلاح الزراعى والباقى من ورث زوجته. وأنا يا سيدى القائد لم أحارب بعد.

كل ما فعلته أنى عبرت القناة فى سيارة «ماز»، وعدت سابحًا أجرجر أذيال الحسرة.

بيوت عزبة «الدامور» مهلهلة تشبه الاسم. غرفتان وصالة صغيرة. دورات المياه على خط رأسى واحد بماسورة عمومية تلقى بفضلاتها فى حُفر أرضية بدائية. تأتى سيارة النزح كل ستة شهور لترفعها وتلقى بها فى مصارف المحافظة التالية.

السكان من الباعة الجائلين وسُيّاس الجراجات وخدم المنازل يشبهون القماش الدامور الذى أصابه الإصفرار من لفحة الشمس التى يدورون فى رحابها طوال النهار. رائحة عرقهم ممزوجة بتراب القطار عندما يمر بمنازلهم يهز سرائرهم المتهالكة ويخلخل صواميل أعوادهم الهزيلة.

فقراء مدن القناة انضموا لفقراء القاهرة الكبيرة. لقمة العيش ألقت بهم أمام دور العرض والمسرح يبيعون قراطيس اللب والسودانى المحمص.

يتجاورون فى العتبة والموسكى خلف عربات خشبية عليها ترمس ونبق ودوم.

ويعودون للغرف المتهالكة فى عزبة الدامور أبدانًا مجهدة يفزعهم صوت القطار ومدفع أبوجاموس وصور الغرقى على سطح القناة.

الفقر قادر على سلب مخالب الشيطان وجعلها مطارق أبواب!

عندما كلفتنى «منيرة كامل» بكتابة قصص قصيرة تنشر بالعدد الأسبوعى للجريدة..وجدت نفسى أقف أمام مدفع «أبوجاموس»!!

كل منزل سقط جرّاء قذيفة منه، خلقت له قصة عن عائلة كانت تعيش وتحلم وتقرأ طالعها فى باب حظك اليوم.

كتبت عن مشوار التهجير ومشاهدة الطريق الأصفر من فوق أثاث العائلة الهاربة.

كتبت عن لطماتى فوق سطح الماء، والوجوه التى شجعتنى على عبور القناة ومنحتنى من أنفاسها قبلة الحياة.

عاتبتنى «منيرة» على بخلى الشحيح يوم وفاة الزعيم «جمال». لم أجد ما أكتبه. لم أجد دموعًا فى خزانة أحزانى.

كانت كأم رفضت قبول العزاء فى وحيدها حتى تأخذ الثأر فيه.

يومها زارتنى أمى وفى يدها طبق رز باللبن. اغترفت ملعقة منه وإذ بحبات الرمل الصفراء تجزُ تحت أسنانى!!

تسرب طعم الصبّار إلى حلقى ممزوجًا بملوحة دموعى يوم رحيلها.

أخذت رأسها بين يدى وقبلت خدودها وقلت:

اشكرى الرب يا أمى.. فقد جاءك «نبيل» مغسولًا بمياه عذبة. أنا ملابسى كانت محشوة بالملح!

كتبت عن الغياب وعن الضباب.. غياب العتاب عن فساد شلة السوء. سوء الأداء وسوء التقدير. وعن الضباب الذى لم أره يومًا فوق سطح المياه. كل ما رأيته غبار التراب خلف الأكمة الرملية.

كتبت عن حرمانى من القتال بلوائح جامدة لا تعترف برغبتى فى أن أكمل فترة تجنيدى، بحجة أن أخى قد مات فى حادث سيارة وغرق فى الترعة.

وفى الذكرى الأولى لحادثة الزيتون، كتبت أقول:

ولماذا لا تظهر؟!

ونحن من استقبلها وفى حضنها وليد مبارك وأكرمها هى ومن معها.

وظللت أتساءل: لماذا اختارت مصر لتهرب إليها، وهى تعلم أن مصر يحكمها نفس الرومان الذين هربت منهم؟ أم أنها هربت من دسائس حاخامات المعبد وخوفهم من الفجر الجديد.

ربما كان الظهور ردًا جميلًا، وهى المعروف عنها محبتها ونبلها الجميل. 

وكم كان التوقيت مناسبًا جدًا لتضميد الجروح وبعث الأمل فى نفوس المصريين.

ظهرت أم لم تظهر.. عادت الأسئلة تطفو على السطح من جديد.. كل من قابلنى فى منزل الأستاذ «عودة» فتح معى نقاشًا حول المقال.

لكن واحدًا فقط كان فى مرمى قبضتى اليسرى عندما قال: 

لماذا شعب مصر وحده استحق مباركة السيد المسيح؟!

ولماذا لم يظهر هو ليؤكد هذه المباركة؟!

كان أغبى سؤال سمعته فى حياتى!! وتدخلت «منيرة» وهى تضحك:

صحيح لماذا لم يقل مبارك شعب فلسطين أو شعب البرازيل!!

وانتقل السؤال حائرًا بين الحضور، حتى حط على شفاه السيدة «عِيشة» فقالت: المصريون يحبون السيدة العذراء وفى أوقات الملمّات والأزمات السياسية والاقتصادية تكون النساء فى مهب الريح. فهى الأم والأخت والزوجة المنوط بها حياة الأسرة وتدبير أمورها الحياتية. غياب الزوج والأخ والأب فى الحرب يضع المرأة فى مواجهة وحش البغاء.

كثيرات منهن لا يمتلكن سوى جسد. لا مهنة ولا ميراث يقويان سيقانهن الهزيلة.

استدعاء السيدة الطاهرة كان تشبثًا بحبل الفضيلة ونوعًا من المقاومة قبل أن يكون ضربًا من الدروش.

ظهرت أم لم تظهر.. هذا لا يعنينا فى شىء.

يكفينا أن حبل الحيل بقى مشدودًا حتى عبرنا ورأى كل من تمنى رؤية حبيب حبيبه.

الشط الآخر من القناة والممرات وواحات النخيل وآبار المياه العذبة ودير سانت كاترين والعريش ورفح وشرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا.

ظهرت العذراء لكل من آمن بهذا الشعب.

الشعب الذى يستحق أن نخرج له حاملين سعف النخيل، وهو يعود لمنازله التى دمرها أبوجاموس، ويبنى من جديد ويُعمر ويزرع ويرفع الرمل الأصفر الذى نزل لقاع القناة كى يدفن شهداءنا الأبرار.

فى أوقات الملمّات والأزمات السياسية والاقتصادية تكون النساء فى مهب الريح.. فهى الأم والأخت والزوجة المنوط بها حياة الأسرة وتدبير أمورها الحياتية.. غياب الزوج والأخ والأب فى الحرب يضع المرأة فى مواجهة وحش البغاء

المرأة الذكية القوية تثير مخاوف الخصيان..

تجعلهم يتساءلون هل هذه من أمرناها بضم ساقيها حين تجلس.. ألا تتحدث مع الغرباء؟

وأن صوتها عورة وشعرها عورة وبروز نهديها خارج النطاق جريمة فيدرالية!