رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد توفيق يكتب: يوم رحل الإمام

الكاتب الصحفي محمد
الكاتب الصحفي محمد توفيق

حار الأطباء في مرضه..

وظن البعض أنه مرض عابر، ونهوه عن إعمال عقله، وإجهاد فكره، وأمروه بالراحة التامة حتى يتجاوز الأزمة، لكنه لم يسمع نصائح الأطباء.

فظل يبيت على فراش الآلام، ويغدو إلى محل عمله فينظر في الفتاوى، وفي أعمال مجلس الشورى، ومجلس الأوقاف الأعلى، وأعمال الجمعية الخيرية الإسلامية، وأوقاف الحنفية- نسبةً إلى الإمام أبي حنيفة- ويشتغل مع اللجنة التي يرأسها لوضع نظام القضاء الشرعي، ويحضر امتحان مدرسة دار العلوم، ويقضى حوائج الناس؛ فاشتد عليه المرض، وعجز عن الخروج من بيته.

مَرِض المُصلح العظيم فاضطربت لمرضه الأمة المصرية، فكانت الدار التي يسكنها بمثابة كعبة العائدين- على حد وصف الشيخ محمد رشيد رضا- من العلماء، والأمراء والوزراء، والأدباء، والفضلاء، والفقراء، والأغنياء.

ونشرت الصحف في صفحاتها الأولى تفاصيل مرضه، وخطورة حالته، وصار الناس يتابعون أخباره يوميًّا من الصحف، ويدعون له، وبعد أسبوع من اشتداد المرض، وفي تمام الساعة الخامسة، غابت شمسه، وصعدت روحه إلى بارئها.

وفي صباح يوم الأربعاء، 12 يوليو عام 1905، خرجت جريدة «الأهرام» بعنوان يقول:

- موت المفتي.. الشيخ محمد عبده.. البقاء لله وحده.

وبدا أن صحيفة «اللواء» من أكثر الصحف حزنًا عليه، فقد جاء فيها: «الذي مات بالأمس إنما مات بموته العلمُ المعاصر؛ فالفقيد فقيد البلاد، فقيد العلم، فقيد اليتامى، فقيد البؤساء، فقيد الإسلام والمسلمين، فالإفتاء يرثيه، والشورى يبكيه والجمعية-أي الجمعية الخيرية الإسلامية- تندبه، والأوقاف تتحسر عليه، والأزهر يشهد له، وذلك الجنين- أي مدرسة القضاء الشرعي- حُرمت مساعيه».

ونعاه تلميذه محمد رشيد رضا قائلًا: «لو كان كبر النفوس، وطهارة الأرواح، وعلو الهمم مما يحول دون الموت لما مات أبدًا».

وأردف «رضا» قائلًا: «مات الأستاذ الإمام، فمات ذلك العلم الواسع، والحكمة البالغة، والحجة الناطقة، والمعارف الكونية، والإلهية، والعلوم الكسبية واللدنّيّة، مع البيان الساحر، والأدب الباهر، والبلاغة التي تمتلك العقول، والقلوب، والفصاحة التي تستهوي الأسماع، والنفوس».

وتابع «رضا» نعيه: «مات الأستاذ الإمام فماتت تلك الآمال البعيدة، والمقاصد الحميدة، وشعر طلاب الإصلاح أنهم فقدوا إمامهم العظيم الذي كملت فيه صفات الزعيم».

رحيل الإمام محمد عبده ألقى بظلاله على الجميع، البعيد والقريب، الحبيب والبغيض، الوطني والأجنبي، العالم والجاهل، وخرج الآلاف في جنازته من الإسكندرية إلى القاهرة.

وسار الناس على الأقدام من محطة مصر إلى مقابر المجاورين رغم شدة حرارة الصيف، حتى خُيل للبعض أنه لم يبقَ أحد من سكان القاهرة والإسكندرية إلا وحضر ليصلي على الإمام محمد عبده في الجامع الأزهر، ويودِّعه إلى مثواه الأخير.

وتبارت الصحف في الاحتفاء بالإمام، فكتب عنه أغلب رموز عصره، من مختلف التيارات والأفكار، ومن بينهم الزعيم مصطفى كامل، والمفكر قاسم أمين، والأديب حفني ناصف، والشاعر حافظ إبراهيم، وغيرهم كثير.

رحل الإمام، ولم يكن قد أتم عامه السادس والخمسين، وذلك بعد أربعة أشهر فقط من استقالته من عضوية مجلس الأزهر.