رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يورج بابروفسكي: لـ"أمان ": لابد أن تتدرب الشعوب على بناء الثقة والاطمئنان..وأرفض توحش الرأسمالية

جريدة الدستور

صاحب كتاب "العنف والإنسان": الإرهاب سمة القرن العشرين ويكفي أن نتأمل الحروب العالمية لنتأكد من ذلك
حوار العاطفة جزء من مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي!

كيف يتحول العنف لحالة روتينية عند البشر؟ وكيف تدور دوائره لتصبح أسهل برغم التطور والمدنية؟ رحلة من التفكير والمقارنة بين أسوأ فترات العنف والمجازر وزعمائها، وقد أمعن المؤرخ الألماني البارز يورجبابروفسكي، لاستخلاص العبرة من خلالها، في كتاب صدر ضمن مشروع "ليتريكس" الموجه للعالم العربي.

صدرت ترجمة الكتاب مؤخرا عن دار "صفصافة"، وقد وضعتها د. علا عادل، مدرس الأدب الألماني بكلية الألسن، وشهد معهد جوتة ليلة أمس مناقشة ساخنة لمضامينه ضمن مهرجان القاهرة الأدبي الدولي، بحضور المؤلف والمترجمة والناشر وإدارة الكاتب محمد شعير، وحشد كبير من القراء.

يتساءل بابروفسكي أستاذ تاريخ أوروبا بجامعة هامبولت ببرلين: هل لنا أن نأمل في مستقبل سلمي؟، والإجابة ورغم حالة التشاؤم: نعم. وهو يشير لغريزة العنف الأصيلة بالبشر، ولكن المدنية الحديثة أزاحت الكثير من الحاجة للعنف لصالح التعايش.


العنف وتبلد المشاعر

وبرغم المدنية ظل هناك من يمارسون العنف ومن يستفيدون منه، وبمرور الوقت صار العنف جزء من تنفيذ الأوامر لدى البعض، كما الحال في الديكتاتوريات العتيدة، ومن هنا صار العنف سمة القرن العشرين، من حيث قدرته على التدمير، ويكفي أن نتأمل الحروب العالمية لنتأكد من ذلك. 

إن الحروب الأهلية مثلا تجعل البشر تتبلد مشاعرهم، وقد جرى ذلك بامريكا اللاتينية بالثمانينات، فكنت ترى الجثث ملقاة بالشوارع، فيما رجل الشرطة لا يتحرك لوقف التقاتل بل يتحرك لمنع سيارة من أن تتوقف بمكان خاطيء! هذا نمط اعتياد العنف الخطير.

ومن الاستعمار مرورا لمعسكرات الاعتقال ومواطن الإرهاب، يبحث المؤرخ في التبريرات الاجتماعية والتاريخية المؤدية للعنف، وهو يورد شهادات لمشاركين بالحرب قتلوا أسراهم دون ذرة من ندم لأنها أوامر وجهت إليهم ولا يمكن مخالفتها.

الكتاب يعترف بشكل مستحق للعنف، ذلك الذي ننزعه من أنفسنا ونملك أجهزة الدولة صلاحياته لفرض القانون واحترام العدالة والآخر، على ألا تتحول تلك الأداة لوسيلة بطش بالمواطنين أنفسهم. 

ويشير "بابروفسكي" إلى أن العنف المعاصر صار أسهل لأن الكل عبارة عن ترس بماكينة كبيرة تصدر الأوامر، ففي عهد هتلر النازي كان يمكن أن يكون دور أحدهم مجرد تدوين أسماء المارقين، ويكون دور الآخر توقيفهم بمحطة القطار انتظارا لشحنهم، وهكذا، لا يمسك أي منهم بسيفا طويلا ويريق الدماء، وبالتالي يمكنه أن يزيح شبح العنف والقتل عن مخيلته، وهذا ما يجري بالبيروقراطيات الحديثة التي تدين العنف المباشر لكنها لا تدين غير المباشر في أحيان كثيرة، وتلاحق المجرمين ولكنها أيضا ترتكب جرائم بحق أبرياء آخرين. 

ويرفض المؤرخ الألماني ربط العنف بالطقس أو لون البشرة وما شابه، فأمريكيون كثيرون اعتادوا العنف بولاية شيكاغو الباردة مثلا! 

إن إحدى تبريرات العنف كما وجد المؤرخ، هي أن مجموعة من البشر لا تجد من يدافع عنها، ومن بين الدوافع تفشي الأمية بالطبع في أي مجتمع، لكن كوابح العنف يمكن أن تأتي مع تشكل روابط حقيقية للحماية من العنف. 


الربيع العربي وإسرائيل

خلال اللقاء، أكدت مترجمة الكتاب أنها وجدت دراسة عميقة عن مواطن وفضاءات العنف المختلفة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا بالكتاب، وردا على تساؤل مدير اللقاء حول الثورات العربية، اعتبرت د. علا عادل أنها كانت بوابة للكثير من العنف والدماء بين أبناء الوطن الواحد، وهو ما اختلف الكاتب محمد شعير حوله؛ إذ اعتبر أن الديكتاتوريات هي المسئولة عن تحول الثورات للعنف وليس طبيعة الثوار العنيفة. 

وأثار مدير اللقاء نقاشا حول العنف الذي تمارسه سلطات الكيان الصهيوني في فلسطين، وكان رد الكاتب بأن الصراع العربي الإسرائيلي تحركه أمريكا، وتؤثر فيه، وربما يشعر الألمان بقدر من التعاطف مع حق إسرائيل بالوجود كدولة، لكنها بالقطع لا يريدون أن تجري انتهاكات للفلسطينيين، ويتوقع أن أجيالا جديدة ستنشأ بعيدا عما يصفه بـ"الأحكام العاطفية المسبقة" ويمكنها الحوار بالعقل لوقف نزيف الدماء.

وردا على تساؤل أحد الباحثين حول تكفير أوروبا عن ذنبها الاستعماري باعتباره أشد صور العنف فظاعة بالقرن العشرين، اعتبر المؤرخ أن ألمانيا لم تكن جزء من القوى الاستعمارية الكبرى بالمنطقة العربية، وهي اليوم تلعب دور وسيط السلام، وأنه حتى الهولوكست الذي مورس ضد اليهود كان بحقبة زمنية محددة ولا يمكن تعميمه وقد ارتبط بشخصية هتلر النازية وأفكاره، واليوم بألمانيا هناك حزب كبير بالبرلمان يعارض تماما سياسات إسرائيل.

وبسؤال باحث آخر للكاتب عن سبيل مواجهة العنف بقدر من اللاعنف والتسامح، أجاب: على الشعوب تقوية روابطها لأن، هيجل الفيلسوف الكبير توقع أن تفشل جهود الفرد لمواجهة عنف الأنظمة والحكومات أو أية عنف منظم، وحين مات الديكتاتور فرانشيسكو اجتمع خليفته بالنازيين والفاشيين المتقاتلين بالبلاد وكان لابد من الحوار رغم طول الصراع بين الفريقين. 
ويؤكد الكاتب الألماني أن محادثة سابقة مع وزير بألمانيا الشرقية أسبق، كشفت له كم أن احتقار الشعوب لنفسها حين تنتهك أصواتها بالانتخابات لصالح من يطلبون السلطة.


حالات غريبة

يقول المؤرخ الألماني لـ"أمان" حول مزاوجة زعماء للفن والقتل معا؛ كهتلر الذي كان رساما، بقوله أن هذه النماذج حيرت العلماء ولكنها أثبتت أن الفن لا يزيح العنف من شخصية الإنسان بالقطعية، وقد كان ستالين يغني برهافة ولكنه كان مريضا نفسيا يدعو السيافين لمائدة الطعام احتفالا بالقتل! وكان جورباتشوف فلاحا أميا وتعلم الكتابة بصعوبة ولكن أحلاما مفزعة كانت تواتيه من ديكتاتورية ستالين وقد قاد النضال وتحول المجتمع السوفيتي لدولة أكثر انفتاحا عن ذي قبل.

وقال: لابد أن تتدرب الشعوب على بناء الثقة، بناء حالة الاطمئنان بحيث ألا أشعر بالارتياب حين أراك تسير أمامي بالطريق، وأن تكون الشرطة جزء من حالة الأمان عبر إزاحة شبح الفساد والتربح والعنف غير المبرر والذي لا يلائم حقوق الإنسان عنها. 

أخيرا، وردا على تساؤلنا بخصوص النزعة الاستهلاكية التي تديرها شركات رأسمالية ووصفها المفكرون بكونها العنف الأكبر ضد الإنسان المعاصر، وبينهم تشومسكي، أكد المفكر الألماني ذلك، مشيرا إلى موقفه الرافض للرأسمالية الحرة التي تنتهك أبسط حقوق المواطنة كالسكن والصحة وعدم الجوع، وقد دعا مرارا لتدخل الدول وسن القوانين الاقتصادية التي ترفع من شبح الغلاء وعدم تكريس الحياة لمنطق السلع والشراء الذي يثير الإحباط بنفوس القطاع الأعظم من الناس، معتبرا أن هذه النزعة الاستهلاكية سبب تفشي الكثير من جرائم السرقة بأمريكا.