رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثـورة 30 يونـيـو.. والتـوازن الدولى «18»


أن أوكرانيا لا يمكنها مواجهة روسيا منفردة، خاصة بعـد أن تنازلت لروسيا عن ترسانتها النووية التى ورثتها عن القوة السوفيتية العـظمى، والتى كانت تُعـد ثالث أكبر قوة نووية فى العالم، وخفضت قوتها العسكرية من 780 ألف جندى إلى 120 ألفا، كما نخلص ثانيا إلى أن روسيا لن تتخلى عن شبه جزيرة القرم كمرتكز رئيسى لاستراتيجيتها وكجزء أصيل من أمنها القومى

تناولت فى المقالات السابقة محتـوى مسارات المنظور الجيوبوليتيكى الأمريكى، فكان الأول هو إدراك الولايات المتحدة بنشأة حالة استقطاب وحرب باردة ستقود إلى بناء تحالفات وتوازنات جديدة، وهو ما يبررسعـيها إلى بناء تحالف يضم قـوى شرق أوسطية غـير عربية ودولة قطر العـربية لتضفى عليه صفة التحالف الإقليمى، وتمثل الثانى فى حتمية وجودها فى منطقة الشرق الأوسط التى أصبحت لا غـنى عـنها فى بناء التحالفات والتوازنات، وتمثل المسار الثالث فى حتمية تفكيك الدول العـربية المركزية باعـتبارها المكون الرئيسى للمنطقة لكى تتمكن من إعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير الذى جعـلت حدوده تنطبق على حدود العالم الإسلامى، وتمثل الرابع فى عـرقلة حركية القوى العالمية المنافسة «روسيا والصين»، وتناولت موقف روسيا والصين فى ضوء الأزمة الأوكرانية لكى نؤسس للإجابة عن التساؤلات السابق طرحها، وهى: هل يمكن لأوكرانيا منفردة مواجهة روسيا؟ وهل يمكن لحلف الناتو أن يغامر بحرب عالمية لا تبقى ولا تذر ضدها؟ أم يمكن لأطراف الأزمة أن تتعـقـل وتتوصل إلى بدائـل تجنب العالم ويلات حرب عالمية جديدة؟

وبداية فإنه يتعـين توضيح القواعـد والمعـايير التى تتحكم فى الحسابات الاستراتيجية لتقودنا إلى الإجابات الصحيحة، فالمعـيار الأول هو أن التوازن الدولى بين القوى العالمية لا يـمكن قياسه بمقارنة القوات وعـدد ونوعـية المعـدات والأسلحة فقط، خاصة عـندما يمتلك كل طرف من أطراف النزاع من وسائل الردع النووى ما يكفى لتدمير الآخر عـدة مرات، إذ يمكن إحداث الردع وتحقيق توازن الرعـب عـندما يكون الامتلاك كافيا لتدميرالآخر مرة واحدة فقط «حد الكفاية»، والقاعـدة الثانية هى أن القوتين المالكتين لحد الكفاية يمكنهما تحقيق التحييد المتبادل للرادع النووى خشيةً من التدمير المتبادل، وبالتالى يصبح الرادع النووى كالعـدم «العـدم النووى»، وقد يؤدى الرعـب إلى نشأة نوع من التعاون لإيجاد بدائل لحل المشكلات التى قد تنشأ بينهما، والاعـتبار الثالث هو أن روسيا لن تنسى الهزيمة الساحقة التى لحقت بالقوة السوفييتية العـظمى باعـتبارها الوريث الشرعى لها من المعسكر الغـربى، الذى أسقط الاتحاد السوفيتى وحوَّله إلى أنقاض دول وبقايا شعـوب فى حرب باردة استحقت أن نطلق عليها الحرب العالمية الثالثة، ثم تمكن من بناء نظام عالمى جديـد انفردت الولايات المتحدة بقمته، والمعـيار الأخير، وهو الأهم، هو أن روسيا لا يمكن أن تتخلى عن شبه جزيرة القرم حيث ترتبط بأمنها القومى ارتباطا مباشرا، فقد تؤدى سيطرة غـيرها على القرم إلى شل حركة أسطولها فى البحر الأسود الذى يمثل القاعـدة البحرية الرئيسية والمنفـذ الوحيد لقوتها البحرية لتحقيق حلمها الدائم بالوصول إلى مياه البحر المتوسط الدفيئة.

وترتيبا على ذلك، يمكن أن نخلص أولا إلى أن أوكرانيا لا يمكنها مواجهة روسيا منفردة، خاصة بعـد أن تنازلت لروسيا عن ترسانتها النووية التى ورثتها عن القوة السوفيتية العـظمى، والتى كانت تُعـد ثالث أكبر قوة نووية فى العالم، وخفضت قوتها العسكرية من 780 ألف جندى إلى 120 ألفا، كما نخلص ثانيا إلى أن روسيا لن تتخلى عن شبه جزيرة القرم كمرتكز رئيسى لاستراتيجيتها وكجزء أصيل من أمنها القومى، خاصة بعـد الاستفتاء الذى أكد رغـبة سكان القرم فى الاستقلال، وبعد أن أصدر بوتين مرسوما تتمتَع بمقتضاه جمهورية القرم بالسيادة الكاملة وأصدر قرارانضمامها إلى روسيا بعده بيوم واحد فقط، ونخلص ثالثا إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يمكن أن يغامروا بحرب لا تبقى ولا تذر مع وريثة القوة السوفيتية العـظمى لاعـتبارين رئيسيين، الأول هو أن الطرفين لا يمتلكان من وسائل الردع النووى ما يكفى لتدمير الآخر عـدة مرات فقط، بل يمتلكان أيضا ما يكفى لتدمير العالم بأسره، وهو ما يحدث الرعـب فى قلوب الجميع، والاعـتبار الثانى هو تفوق روسيا على الولايات المتحدة فى الكتلة الحيوية، إذ تبلغ مساحتها ضعـف مساحة الولايات المتحدة تـقـريـبـا «17مليون كيلومتر مربع مقابل 9.9 كيلو متر مربع»، ويبلغ تعداد سكان الولايات المتحدة أكثر من ضعـف تعـداد روسيا «317 مليون نسمة مقابل 146 مليون لروسيا» بما يحقق معدل كثافة سكانية - كيلو متر مربع أكثر من ضعـف روسيا، وبالتالى تتحمل الولايات المتحدة ضعـف خسائر روسيا، كما توفر مساحة الإقليم لروسيا توزيع أهدافها الاستراتيجية بما يكفل حمايتها عن مثيلاتها الأمريكية ، لذلك يكون من المستبعـد إن لم يكن من المستحيل أن تواجه القوتين العالميتين بعـضهما، فإذا كان الأمر كذلك، فهل تهتدى القوتان إلى بديـل يجنب العالم ويلات حرب عالمية جديدة. ذلك ما سنجيب عنه الأسبوع المقبل بإذن الله.

■ أستاذ العلوم السياسية- جامعة بورسعيد