رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وروسيا .. البحث عن الذهب


الانجراف العاطفى وراء آمال مستلهمة من مرحلة تاريخية سابقة سيكون خداعا للنفس. فقد انقضى زمن اختلف فيه الطرفان اللذان يواصلان علاقة بذكريات قديمة، فقد كفت مصر عن أن تكون «ناصرية» ولم تعد روسيا « سوفيتية». وسوف ترسم المصالح آفاق التعاون والصداقة على نحو مختلف.

ينتظر البعض تجدد العلاقات المصرية -الروسية بعد زيارة السيسى لموسكو. وهى علاقات يمتد تاريخها لأكثر من مائتى عام، حين تم تعيين أول قنصل روسى فى الإسكندرية فى نوفمبر 1784 عهد على بك الكبير! بعد ذلك بنحو نصف القرن عام 1838 استدعى محمد على باشا المقدم الروسى إيجور كوفاليفسكى إلى قصره، وأهداه علبة نشوق ذهبية غالية، ثم سأله إن كان الروس قد توصلوا إلى طريقة لاستخلاص الذهب من الرمل؟ وقال له المقدم الروسى «نعم، لدينا طريقة إلى ذلك»! فأرسل محمد على أول بعثة تعليمية مصرية إلى سيبيريا مؤلفة من طالبين مصريين درسا علم التعدين ورجعا لمصر وتوجها إلى النوبة وفازولى بالسودان ليستخلصا الذهب لمشروع النهضة! ولم تنقطع العلاقات المصرية الروسية على مدى مائتى عام لكنها كانت تضعف أوتقوى وفقا للأوضاع الدولية والمحلية إلى أن شهدت قفزة غير مسبوقة فى عهد جمال عبد الناصر على جميع المستويات.

وخلال العدوان الثلاثى عام 1956 لم تكتف روسيا بإنذار «بولجانين» الشهير الذى وجهه لبريطانيا وفرنسا متسائلا « ماذا لو أن دولة أقوى منكما قامت بقصف لندن وباريس؟ «بل ترافق الإنذار بوصول وحدات عسكرية روسية إلى الإسكندرية متخفية فى الزى الرسمى للجيش البولندى! وأعقب ذلك صفقة الأسلحة التى سميت بالصفقة التشيكية تجنبا لاستفزاز الغرب، وتلتها اتفاقيات أخرى عام 1963، وعندما فقدت مصر فى نكسة 67 ثلثى طائراتها وثمانمائة دبابة من أصل ألف أقام الروس جسرا جويا مفتوحا مع مصر ودعموا جيشها بورش الإصلاح والكوادر والسلاح. وفى 22 يناير 1970 قام عبد الناصر بزيارة سرية لموسكو وكان منهكا ومعذبا بالرغبة فى تحرير بلاده فطلب من الروس صواريخ سام – 3 مع خبراء، وللمرة الأولى والأخيرة فى تاريخ الاتحاد السوفيتى يجتمع المكتب السياسى للحزب فى ظرف أربع وعشرين ساعة ليتخذ قرارا بشأن الطلب المصري. وتم إرسال خمسة عشر ألف ضابط وجندى سوفيتى إلى مصر مع الصواريخ وشبكة دفاع جوي، وبعدها كفت طائرات الفانتوم عن التوغل فى العمق المصرى. إلا أن تلك الطفرة تمت فى ظل موازين قوى تصارعت خلالها الاشتراكية السوفيتية والرأسمالية العالمية، بينما تأتى زيارة المشير السيسى فى ظرف دولى توارى فيه الصراع لصالح التوافق، لهذا كان الدور الروسى خلال أزمة العراق ثم الحرب عليه مقصورا على الترويج للمشروع الأمريكى، وهو ما تم أيضا فى ليبيا، إلا أن خروج روسيا صفر اليدين من العراق وليبيا دفعها للالتفات بقوة إلى مصالحها الخاصة والتشدد فيما يتعلق بسوريا والترحيب بزيارة السيسى، والإعراب عن الاستعداد لفتح أبواب التعاون وعقد الصفقات العسكرية والاقتصادية. إلا أن الانجراف العاطفى وراء آمال مستلهمة من مرحلة تاريخية سابقة سيكون خداعا للنفس. فقد انقضى زمن اختلف فيه الطرفان اللذان يواصلان علاقة بذكريات قديمة، فقد كفت مصر عن أن تكون «ناصرية» ولم تعد روسيا « سوفيتية». وسوف ترسم المصالح آفاق التعاون والصداقة على نحو مختلف.

بالنسبة لنا فإن كل خطوة للتحرر من الاحتكار الأمريكى للسلاح المصرى الذى استمر نحو أربعين عاما هى خطوة تتيح هامشا للحركة السياسية. وفى بعض الظروف يعد حتى «الهامش» مكسبا تاريخيا. أملنا إلى جانب المصالح العسكرية والاقتصادية أن تتطور أيضا العلاقات الثقافية التى كان للأدب والثقافة الروسيين خلالها تأثير كبير، منذ أن تبادل الإمام محمد عبده والروائى العالمى ليف تولستوى رسائل المودة والتقدير رغم اختلاف الرؤى.