رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تروللى الخير

منذ ما يقرب من عشرين عامًا كنت ما زلت فى شرخ الشباب.. كنت أعبر عن تمردى بقضاء نهار رمضان فى العمل فى مجلة «روز اليوسف» وتناول الإفطار فى أحد مطاعم حى السيدة زينب العريق والمجاور للمجلة، على أن أعود للعمل بعد تناول الإفطار.. لم تكن ثمة ضرورة ملحة لذلك بقدر ما كان طقسًا من طقوس الصعلكة الشبابية والتمرد على التقاليد الراسخة والتى تقضى بالعودة من العمل مبكرًا فى نهار رمضان وقضاء المساء أمام شاشة التليفزيون.. كانت متعتى الحقيقية أن أتجول فى الميدان قبل الإفطار وبعده مباشرة وأرقب سلوك الصائمين ومرتادى موائد الرحمن وزوار المسجد العريق.. فى إحدى جولاتى قبل دقائق من المغرب قابلت شخصًا مهيب الطلعة يراقب مائدة الرحمن فى الميدان مثلى، قال إنه أستاذ اقتصاد مصرى فى أمريكا وإنه يعمل مستشارًا لجامعة الدول العربية، أضاف لى أنه مهتم جدًا بدراسة موائد الرحمن فى مصر كظاهرة تراحمية بين المصريين يندر أن تجد مثيلًا لها فى العالم كله، كان حديث الأستاذ المصرى رائعًا ومشوقًا ومليئًا بالتفاصيل والأرقام للتدليل على وجهة نظره.. ضاعت منى التفاصيل، لكنى ما زلت أذكر خلاصة رأى الرجل بأن موائد الرحمن ظاهرة مصرية تراحمية فريدة.. أنا مدرك طبعًا أن التكفل بإفطار صائم أمر تحض عليه الشريعة وبالتالى هو موجود فى كل بلاد المسلمين، لكن الرجل كان يقصد أنك لن تجد طعم هذا الطقس سوى فى مصر، أن يتطوع أشخاص بأموالهم ومجهودهم ووقتهم لإطعام الآخرين دون سابق معرفة.. فكرة تتجاوز الصدقة، أو فعل الخير، أو طلب الثواب، إطعام شخص ما يعنى أنك تحبه دون شرط، لذلك تطعمنا أمهاتنا ونحن صغار ويبقى طعم طبيخهن فى أفواهنا ما حيينا، فى الغرب وفى الشرق كثيرون يفعلون الخير.. لكن التكافل والتضامن فى مصر لهما طعم آخر.. وبفضلهما يستمر هذا المجتمع صامدًا.. يظن بعض أفراد النخبة الجديدة فى مصر أن لفظ «الإطعام» الذى يستخدمونه للدلالة على إطعام الآخرين لفظ جديد، هو بالتأكيد لفظ جديد ولكنه يعبر عن معنى قديم جدًا، جداتنا كن يطعمن الفقراء بأرغفة الخبز واللحم.. وإذا كان الحال ضيقًا يطعمن الفقراء بالفول النابت والخبز.. وكان ذلك فى الغالب وفاءً لنذر ينذرنه لله.. لا يهم هل الطعام فول أم لحم، المهم أن هناك من يفكر فى الآخرين وفى أن يكون سبب سعادة لهم.. هذه القيم هى قيم مصرية أصيلة نحن فى أشد الحاجة لأن نضاعفها هذا العام عشرات الأضعاف، ولأن نذكر أنفسنا بها لأنها تعبر عن ذاتنا الحقيقية التى غابت عنا بعض الوقت.. مثل المصريين جميعًا أذهب إلى السوبر ماركت الكبير قبل الشهر الفضيل.. كثيرًا ما أقف مدهوشًا أمام كم الأغذية التى يكدسها البعض استعدادًا لشهر رمضان وكأننا مقبلون على مسابقة لتناول الطعام لا شهر للعبادة والصيام.. أستاذنا د جلال أمين كان يقول إن هناك تعمدًا لأن تكون عربة التسوق فى السوبر ماركت كبيرة جدًا حتى تشعر أنك لا بد أن تملأها بأصناف البضائع المختلفة، لو أخذت حاجتك فقط فستشعر أن العربة ما زالت فارغة وأن هذا ليس من مقامك وأن عليك أن تضيف المزيد والمزيد حتى تمتلئ العربة!! أزيد على هذا وأقول إن عروض التوفير ليس هدفها التوفير ولكن أن تشترى المزيد والمزيد وأن تستهلك أكثر.. يقولون لك اشترِ عشر قطع واحصل على قطعة مجانًا فتفعل وفى الحقيقة أنت لا تحتاج سوى لخمس قطع فقط.. لكن العرض أغراك أن تضاعف احتياجاتك فى مقابل اللاشىء.. لست ضد الاستهلاك بالإجمال فبدونه لا يوجد إنتاج ولا اقتصاد من الأساس.. لكن ما أفكر فيه وأدعو إليه أن يقسم كل مشتر مشترواته على عربتى تسوق، واحدة له وواحدة لله سبحانه وتعالى، فلنسم هذه الفكرة «تروللى الخير» بدلًا من أن تشترى عشرين علبة من طعام ما، وتظل لديك لما بعد رمضان اشترِ عشرًا لنفسك وعشرًا لله تعالى.. أشبع رغبتك فى الشراء والتبضع وملء عربة التسوق الضخمة، ولكن تبرع بنصف ما تشتريه للفقراء والمحتاجين، شعب مصر تعداده مائة مليون، لو افترضنا أن القادرين والميسورين منه عشرة فى المائة فقط، فنحن نتحدث عن عشرة ملايين.. وهذا تعداد أربع دول من دول المنطقة العربية!! هذا عدد كبير لأن مصر كبيرة، لو قرر كل رب أسرة ميسور أن يكرم أسرة محتاجة طوال شهر رمضان أو طوال الأزمة فإن هذا لن يحوله إلى شخص فقير.. ولن ينقص من ماله لأنه ما نقص مال من صدقة.. أنا متأكد أن هذا يحدث بأكثر مما يتخيل أحد، وأن هناك جهودًا كبيرة لتنظيم العمل الخيرى على مستويات مختلفة، لكننى أدعو لأن يكون هذا سلوكًا فرديًا تلقائيًا يقوم به كل مصرى من تلقاء نفسه دون انتظار مؤسسات أو هيئات.. اشترِ قطعة وامنح الأخرى مجانًا لأخيك المصرى.. فليكن هذا شعارنا فى شهر رمضان.