رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بطولات الحرب وبطولات السلم

الحروب لا تعطل فقط القمح والبقول، لكنها تشل أيضًا الثقافة والعقول، إذ ينصرف الجميع إلى النظر إلى لهبها، وضحاياها، وينشغل الجميع بها عن كل ثمار الفكر. هناك بطولات فى الحرب قد نقدسها، لكن بطولات الحياة أيضًا جديرة بالتأمل، والإعجاب، والمتابعة الملهوفة. 

كنت أود أن أكتب باستفاضة «معجم الدخيل فى اللغة العربية» للدكتور فتح الله أحمد سليمان، خاصة أن المعاجم من هذا النوع قليلة، ويقع فى ألف صفحة، ويعد أكبر معجم فى ذلك المجال حتى الآن. من قبل كانت هناك محاولة الراهب طوبيا العنيسى الحلبى اللبنانى «الألفاظ الدخيلة فى اللغة العربية مع ذكر أصلها»، وصدرت منه طبعة ثانية فى مصر عام ١٩٣٢ عن مكتبة العرب فى الفجالة، لكنه يتألف من مئة صفحة لا أكثر. وفى عام ١٩٦٢ ظهر «شفاء الغليل فيما فى كلام العرب من دخيل» لشهاب الدين الخفاجى المطبعة المنيرية بالقاهرة، هناك أيضًا: «ما يسمى فى العربية بالدخيل» طه باقر العراق ١٩٨٠، وفى ٢٠٠٥ خرج إلى النور «معجم الكلمات الدخيلة فى لغتنا الدارجة» لمحمد بن ناصر العبودى، وأخيرًا قام الحسين بشوط فى ٢٠١٦ بنشر معجم لا يضم أكثر من مئة كلمة، وعلى سبيل المثال فإن باب السين فيه لا يضم سوى ثلاث كلمات.

كنت إذن أود أن أكتب باستفاضة عن معجم العالم المصرى فتح الله سليمان، لكن أصوات الغارات وانفجارات قنابل الحروب تطغى على كل شىء، تهلك ليس القمح والخبز فحسب، بل الفكر والعلم والثقافة بتعطيل كل ذلك، وتعمى الأبصار عن بطولة السلم، ومآثره، وأمجاده. لا يمنحنا أزيز الطائرات المحلقة فرصة لكى ننصت إلى أنفسنا، أو لكى نحتفل بالحياة، ونحتفى بأبطالها، لهذا لم يكن لدينا وقت أو فرصة لنكتب عن المصرى الذى غامر بحياته مسافة طويلة وسط القصف لينقذ حياة طفلين يمنيين، ولم تكن لدينا فرصة لنكتب عن الطفل المصرى ميسرة محمود، الذى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، الذى حصل على جائزة «شخصية العام» فى النمسا من جريدة «دى بريسه» لدوره الإنسانى خلال تفشى كورونا ومساعدته كبار السن. وقد تسلم ميسرة درع الجائزة من المستشار النمساوى سيباستيان كورتس، الذى أشاد بدور الطفل القادم من صعيد مصر. 

تعطلنا الحرب عن الحياة، عن الاحتفاء بالطبيب المصرى الشاب أنيس حنا، الذى نجح مع فريق من العلماء فى كلية أينشتين فى نيويورك فى التوصل إلى الجينات المتحكمة فى شفاء جلطة القلب. الطبيب الآخر هو شريف زكى إخصائى علم الأمراض، وقد سلطت صحيفة «نيويورك تايمز» الأضواء عليه طويلًا بعد أن تمكن من تشخيص عدد من الفيروسات الخطرة. هذه نماذج من بطولة السلم، من بطولة الحياة، البطولة التى تحرك البشرية إلى الأمام، وتجعلها أجمل، وأفضل، وأعمق إنسانية وشعورًا وفكرًا.

لا تعطل الحرب المصانع وحدها، لكنها تحبط وتجهض التأمل الهادئ لثمار الأدب والفن، وتبطل التفكير فى المشاريع العلمية التى تخدم البشرية وتوجه المال والطاقة إلى مشاريع تخدم الحرب، لذلك ما من أدب عظيم إلا وكان ضد الحرب. ويكفى فى ذلك أن نسترجع قصة «لويجى بيرانديلو» الشهيرة العظيمة «الحرب»، حيث لا بطولة حقيقية إلا للحياة بكل ما تضمه بين كفيها من آمال فى التقدم والأمن والسعادة خلال حياة البشر القصيرة بطبيعتها، ومن دون حاجة إلى حروب.