رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماذا بعد حظر أمريكا النفط والغاز الروسى؟

 

لا يمر يوم تقريبًا دون أن نقرأ أخبارًا عن فرض عقوبات على روسيا. وقد بدأت العقوبات باستبعاد بنوك ومؤسسات مالية روسية من نظام سويفت، وهو ما يؤثر على العلاقات المالية والتجارية بين روسيا والعالم الخارجى، وما يصاحب ذلك من تغيرات فى خارطة التجارة الدولية، فضلًا عن عزل روسيا عن حركة السوق المالية والاقتصادية. 

وصلت العقوبات، أمس الأول، إلى حظر أمريكا استيراد النفط والغاز الروسى، بهذا أصبحت روسيا الآن الدولة الأكثر تلقيًا لهذه العقوبات، متجاوزة العقوبات التى فرضت على بعض الدول كإيران وسوريا وكوريا الشمالية. للوهلة الأولى يبدو كأن الأمر سيكون بمثابة خسارة كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية، لا شك أن هذه العقوبات سيكون لها تأثيرات سلبية على أمريكا وحلفائها من أوروبا وآسيا، وقد بدأ تأثر اقتصادات هذه الدول فى ارتفاع أسعار البنزين وكل الخدمات ذات الصلة بالطاقة. وبالتدقيق فيما يقوم به الحلفاء، فمن الواضح أن الهدف هو تقويض الاقتصاد الروسى كبديل عن الحرب الفعلية، من أجل إفشال خطط بوتين الرامية لعودة الإمبراطورية الروسية ومن بعدها الاتحاد السوفيتى، عن طريق تأجيج القومية الروسية، التى تعتمد على التاريخ الروسى والإمكانات الكبيرة لدولة تشبه القارة. فى هذا الإطار يمكن القول بأن الحلفاء نجحوا فى استدراج روسيا إلى المستنقع الأوكرانى من أجل إنهاكها، وإيقاف الطموح الروسى الرامى إلى تعدد الأقطاب. وبالطبع تقوم الآلة الإعلامية الجبارة للحلفاء بتصوير الصراع على أنه صراع بين معسكرين.. معسكر الاستبداد، ومعسكر الديمقراطية. وهو ما يخفى وراءه سعى الدول الكبرى إلى المكانة والسيطرة واستمرار النظام العالمى على ما هو عليه، مما يتيح لها أكبر قدر من المنافع فى كل المجالات. 

خسرت روسيا فى أول خمسة أيام فقط من غزوها لأوكرانيا ٧ مليارات دولار، ويشير بعض الدراسات إلى أنه فى حال استمرار الحرب فترة طويلة، وهو ما قد يكون هدف الحلفاء، أن تصل الخسارة اليومية لروسيا إلى ٢٠ مليار دولار تقريبًا. وقد يذكرنا ذلك بالعقوبات التى فرضت على روسيا عام ٢٠١٤ بعد ضم شبه جزيرة القرم، ورغم محدودية العقوبات آنذاك، مقارنة بما يحدث الآن، إلا أن الاقتصاد الروسى فقد أكثر من ٤٧.٥٪ من حجمه، وانكمش إلى ١.٢ تريليون دولار عام ٢٠١٦ بعد أن كان ٢.٣ تريليون دولار عام ٢٠١٣. أما الآن فيقدر حجمه بـ١.٥ تريليون دولار، ويتوقع له فى إطار هذه العقوبات خسارة قد تكون مضاعفة عمّا حدثت فى ٢٠١٤، لكن هذه العقوبات لا تدفع روسيا فيها الثمن وحدها، فالعالم كله أصبح وحدة واحدة تتشابك فيها المصالح والأدوار، وهذا ما يفسر القلق العالمى، حتى فى الدول التى لا ناقة لها ولا جمل فى هذه الحرب.

يعتمد الاقتصاد الروسى على النفط والغاز الذى يبلغ ثلثى الصادرات الروسية، كما يعتمد على المعادن، الجزء الأكبر من باقى الصادرات، وهذا يشير إلى هشاشة هذا الاقتصاد الذى يمكن القول بأنه اقتصاد شبه ريعى، نظرًا لضعف الصادرات الصناعية الروسية المعتمدة أساسًا على النفط والغاز والمحاصيل الزراعية، بالإضافة طبعًا إلى الأسلحة. وبعد قرار الرئيس بايدن باستخدام سلاح النفط ضمن العقوبات، سينعكس ذلك على سوق الطاقة فى العالم، وأسعار النفط والغاز اللذين شهدا زيادة بالفعل منذ أن بدأت الحرب، مع توقع زيادة أكبر فى الأيام المقبلة، فالنيران الصديقة لهذه العقوبات ستؤثر على الوضع الاقتصادى للعالم كله، وعلى رأس الدول الأكثر تأثرًا دول الاتحاد الأوروبى، التى تعتمد على الطاقة الروسية بنسبة تزيد على ٤٠٪، كما أن هذا القرار يؤدى إلى ارتفاع تكلفة إنتاج السلع الأوروبية، وهو ما يحد من صادراتها إذا قورنت بالصادرات الصينية، فضلًا عن أن العالم، الآن، أصبح لا يتحمل أى زيادة أخرى فى أسعار الطاقة، التى تنعكس على أسعار السلع والخدمات، خاصة فى الدول التى تعتمد على استيراد الجزء الأكبر مما تحتاج إليه من الطاقة، وبوجه عام فرض حظر على النفط المستورد من روسيا سيتسبب فى صدمة كبيرة للأسواق العالمية، وسيؤثر فى موازين السوق. 

وقد ردت روسيا على القرار الأمريكى، فقامت بحظر استيراد وتصدير بعض منتجاتها وموادها الخام حتى آخر ٢٠٢٢، وهذا يعنى أن بعض عناصر مدخلات الإنتاج سيصبح أكثر تكلفة، وسيحدث تراجع أكبر فى عمليات الشحن، فأسعار الشحن يمكن أن تتضاعف ثلاث مرات، سواء عبر المحيطات أو الجو، لا سيما أن روسيا أغلقت مجالها الجوى أمام ٣٦ دولة، وهو ما يجعل طائرات الشحن مضطرة لاستخدام طرق بديلة، مما يؤدى إلى إنفاق المزيد على الوقود، وربما تقليل حجم الحمولة، كما أن سلاسل التوريد ستشهد بالتبعية تراجعًا أكبر مما هى عليه. كما سترتفع أسعار بعض الحبوب، وعلى رأسها القمح والذرة، وكذلك أسعار بعض المعادن، مثل البلاديوم والألومنيوم والنيكل، التى تستخدم فى صناعات كثيرة، من الهواتف المحمولة إلى السيارات، مما سيؤدى إلى ارتفاع التكاليف على المنتجين والمستهلكين، وقد يجعل السلع تتعرض لارتفاعات فى أسعارها لم تحدث من قبل. 

كل ذلك يعنى أن الأمر تحول إلى حرب اقتصادية وتجارية بين روسيا والحلفاء، مما سيؤدى إلى ارتفاع فى معدلات التضخم بصورة تفوق كل التوقعات، وفى حال استمرار التصعيد ربما يصل إلى ركود تضخمى، ومن ثمّ ارتفاع فى أسعار الفائدة وتباطؤ الاستثمارات، وتفاقم الديون وخدماتها، وبالطبع سيترتب على ذلك تراجع الاستهلاك فى كثير من دول العالم، وتراجع النمو وتزايد معدلات الفقر والبطالة. وهذا يعنى أن دول العالم التى تتحكم فى قرار الحرب والسلم لم تتعلم الدرس الذى تلقته البشرية فى الحرب العالمية الثانية.. وبعيدًا عن الاقتصاد، ما زال المدنيون العزل يدفعون الثمن متمثلًا فى الموت والتشريد والهجرة.