رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دروس الحرب

الحرب فى أوروبا لم تنته، والنتائج لم تُحسم، والأهداف لم تتحقق، لكن الدروس ظهرت، العِبر الأولية استُخلصت.. على الأقل حتى كتابة هذه السطور. 

هناك ما هو أهم من تحليل مَنْ المخطئ والمصيب فى الحرب، ومن نتائج الصراع بين الدوافع الأمنية والقيم الدولية، ومن نهاية أحلام بوتين التوسعية وعودة أمجاد الاتحاد السوفيتى، وتحدى النظام فى أوروبا والتضييق على الناتو، والمس بمكانة الولايات المتحدة، الكل استيقظ على مخاوف أخرى.

الدرس الأهم الذى تعلمه العالم شرقه وغربه، بقواه العظمى وبتحالفاته متعددة الجنسية، وحتى دوله الصغيرة، أن الحروب التقليدية عادت، وأن الحرب العالمية الثانية ليست هى آخر الحروب الكبيرة التى سيخوضها، وأن الاشتعال يحدث فى لحظة، وأن الحروب تبدأ ولا أحد يعرف متى ستتوقف، وأن التسليح لا يزال مهمًا، وأنه حتى الدول البعيدة عن النزاعات بحاجة إلى تسليح جيوشها بشكل دورى، وأن ميزانيات الأسلحة يجب أن تتضخم.. وأن العالم ليس مكانًا آمنًا.. كلنا فهمنا وتعلمنا.. شعوبًا وحكومات.

من قال فى وقت ليس بعيدًا إن الحروب القديمة صارت وراءنا، وفى الإمكان تقليص حجم الجيوش، وإحلال التكنولوجيا العسكرية محل الجنود، ثبت أنه مخطئ، فالميزانيات العسكرية عادت إلى الطاولة.

أول من تعلم الدرس كانت ألمانيا، ففى اليوم الثانى من الحرب أعلن المستشار الألمانى، أولاف شولتز، عن تخصيص ١٠٠ مليار يورو لصندوق خاص يستهدف تعزيز المنظومة الدفاعية للقوات المسلحة، ودعا لضرورة إدراج الصندوق الخاص للجيش فى الدستور، بهدف زيادة الإنفاق الدفاعى بأكثر من ٢ بالمائة من إجمالى الناتج المحلى، بدلًا من حوالى ١.٥ فى المائة، ودول أخرى ستفعل مثلما فعلت ألمانيا.

إسرائيل التى ليست طرفًا فى النزاع، بل تحاول أن تكون وسيطًا، أيضًا ستتعلم الدرس، فخلال العقدين الأخيرين قلص الجيش الإسرائيلى حجم سلاح البر، الدبابات والمدرعات وألوية سلاح المشاة، فى الأساس لدى الضباط الاحتياطيين، الحديث كان عن خطة «تنوفا» العسكرية، التى تهدف بالأساس إلى إحلال التكنولوجيا محل الجنود، وكانت العقيدة السائدة أن الحروب القديمة انتهت، والمعارك الآن سيبرانية وتكنولوجية.

التصور لدى القيادت العسكرية فى تل أبيب والمستوى السياسى كان أن الحرب القادمة يمكن فيها استخدام جيش صغير مُسلح بأحدث التكنولوجيا، وسيكون كافيًا «لدى الجيش الإسرائيلى ٣ ألوية دبابات نظامية مزودة بمنظومات هجومية ودفاعية لكن قُلِّص حجمها، بالإضافة إلى تقليص ألوية من الاحتياطيين من الحجم العام للجيش النظامى».

تلقت إسرائيل تحذيرين بشأن خطة تنوفا، التحذير الأول: كان فى عملية «حارس الأسوار» فى مايو الماضى، التى شكلت نوعًا من جرس إنذار لاحتمال نشوب حرب متعددة الجبهات بقوة منخفضة دون استخدام القوات البرية، التحذير الثانى: كان قبل أسبوعين، عندما غزت روسيا أوكرانيا.

عندما هاجمت روسيا أوكرانيا من عدة جبهات، شعر المسئولون فى تل أبيب بالقلق، وبدأت تكهنات «ماذا لو؟» فى الظهور، ماذا لو نشبت حرب متعددة الجبهات مع إسرائيل، الجبهة الشمالية مع حزب الله، وجبهة أخرى مع سوريا، وجبهة ساخنة فى غزة، بالتزامن مع تصاعد العمليات فى الضفة الغربية، وانتفاضة العرب فى إسرائيل فى المدن المختلطة؟، السيناريو مرعب لإسرائيل.

نائب رئيس الأركان السابق، اللواء إيل زامير، وجّه تحذيرًا استراتيجيًا فى آخر يوم له فى الخدمة قائلًا: «يمكن أن نواجه معركة كبيرة وطويلة ومتعددة الجبهات، مصحوبة بتحديات داخلية ومخططات تتعلق بالجبهة الداخلية وجبهة عميقة، لذلك نحن بحاجة إلى القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، وإلى طول النفس، وجيش احتياطى قوى».

إذا نشبت حرب متعددة الجهات أمام إسرائيل، لن يكون «الجيش الصغير الذكى» ناجعًا، ستكون هناك حاجة ماسة لوجود ألوية تتحرك على الأرض، وقد يستغرق هذا أيامًا.. حجم الجيش سيؤثر على أدائه فى معارك مثل هذه.. بمحاذاة ألمانيا وإسرائيل، سينضم إلى الطابور دول أخرى، وجنون التسليح سيبدأ.

الحرب نشبت فى أوكرانيا، والعالم كله يستخلص الدروس.