رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هزيمة ديستويفسكى.. وظهور مبكر لأغنياء الحرب

كان من حُسن حظى أن أولد فى قرية بها عدد كبير من المتعلمين.. أولئك الذين حصلوا على «العالمية» من الأزهر، وبعضهم شهادات عليا من مدارس غير أزهرية.. حتى الذين لم يكن لهم نصيب فى هذا ولا ذاك.. عدد كبير منهم كان يجيد القراءة والكتابة.. وإن شئت الدقة قل الكتابة بخط جميل.. فقد كانت الكتاتيب فى معظم نجوع بلادنا تقريبًا.

ومن حسن حظى أيضًا أن معظم هؤلاء كانوا يملكون مكتبات صغيرة.. ربما وضع بعضهم تلك الكتب التى اقتناها لسنوات فى خزانة خشب.. ووضعها البعض فى مكتبات من «جريد النخل».. ليس مهمًا، المهم أنهم أصحاب «مكتبات».. والأجمل من ذلك كله أن المدينة.. سوهاج المدينة.. وقتها بها أكثر من مكتبة عامة.. وأشهرها وأكثرها زحمًا بالكتب كانت مكتبة مجلس المدينة.

وفى المدينة ذاتها كان هناك بيت لأحد أهم أبناء عائلتى.. شيخ وقور وشاعر مشهود له.. رجل تعلم فى القاهرة وله أصحاب كبار وتلاميذ من مشاهير الكتبة فى مصر.. هو «الخال الأكبر» لكل أدباء سوهاج ومبدعيها ولنا الشاعر الراحل «عبدالله الأنور فواز» والد الشعراء الأربعة الكبار.. السماح وأوفى ومشهور وفولاذ.. وذلك البيت كان متسعًا للجميع.. يسمعون ويأكلون ويشربون ويستمتعون ويسألون ولكل سائل إجابة.. وهناك سألت لأول مرة عن ذلك الاسم الذى وجدته على كتاب مدهش صادفنى فى مكتبة مجلس المدينة «ديستويفسكى»، فكان أن قال لى «كبيرنا» ما تيسر على قدر فهم طالب ثانوى صغير، فخرجت أبحث عن كل ما أستطيع أن أجده من إبداعات ذلك الرجل الغنى، الذى حلم بسعادة الفقراء على الأرض فكتب لهم ولنا «تعاويذه» فى مجلدات ضخمة، ترجمها الرائع «سامى الدروبى»، ديستوفسكى هو ذلك الصحفى والفيلسوف المولود منذ مائتى عام بالتحديد فى روسيا.. وحسب ما قيل لى وقتها كان دارسًا للهندسة العسكرية.. لكنه لم يحب دراسته ولا أولئك الذين يدرسون معه من أبناء الأغنياء وإذا كان قد عانى من «التفاوت الطبقى فى بلاده مبكرًا».. ثم تخلص من ذلك.. فإنه ظل لسنوات يعانى من «الصرع».

الرجل الذى عمل مهندسًا فى بداية حياته برتبة ملازم لم يستطع البقاء فى تلك الحياة كثيرًا، فكان أن استقال ليتفرغ لحياته مع الأدب، حيث أبدع لنا كل تلك المؤلفات التى انتشرت فى العالم أجمع وترجمت إلى ١٧٠ لغة.. وعرف بعض رواياته الطريق إلى السينما، وعرفناه فى مصر من فيلم «الإخوة الأعداء»، الرجل الذى حاول مقاومة الاستبداد فى بلاده حكموا عليه بالإعدام، ثم خففوا الحكم إلى النفى فى سيبيريا لمدة أربع سنوات.

ديستويفسكى «المقامر» الذى نجا من الإعدام منذ ما يزيد على مائة وخمسين سنة لم ينج هذه المرة، فقد وجدها «العنصريون»، الذين يدّعون أنهم أبناء التنوير والحضارات وحقوق الإنسان فرصة لينتقموا منه ومن إبداعه بأن اعتبروا منع تدريس رواياته فى «أوروبا» عقوبة توجه إلى روسيا التى تحارب أوكرانيا.

صاحب «الجريمة والعقاب» التى تتحدث عن «الغربة والاضطراب» اللذين يدوران حول حياة شخص بسبب تحولات «الاقتصاد» و«الثقافة» و«المجتمع» لم ينج من العقاب مجددًا. ليس لشىء إلا لأنه أديب «روسى»، ها هو العالم المتحضر يعاقب ديستويفسكى على «باسبوره».

الأمر كله يبدو لى نوعًا من السخرية.. مجموعة من التجار والمجاذيب يكذبون وهم يتنفسون.. كشفتهم الحرب الروسية الأوكرانية فى أيامها الأولى.. فالذين كانوا يتحدثون دومًا عن «القانون» وعن «الدولى» وعن «السيادة» وعن «حقوق الإنسان» يحسبون، الآن، كل شىء على حسب مصلحة كل واحد فيهم.. على حسب موقع كل شخص منهم على «خريطة العالم»، يحسبونها بأعداد الصواريخ والقاذفات والغواصات.. هو «العالم» المفضوح بفجاجة الآن.. لا فرق بين من أقاموا «الحرب العالمية الأولى ولا الثانية.. ولا أى حرب، وأيًا ما كانت المبررات.. وأيًا ما كانت مواقع المعارك، الفقراء فقط هم من يدفعون ثمن هذه «الحروب».

سبعة أيام فقط والجميع يحسبها.. الذهب وكم ارتفع سعره.. الدولار وموقفه وموقعه من الإعراب.. أسعار القمح والزيت والسكر.. أعداد اللاجئين النازحين خارج ديارهم.. الجميع يبحث عن الأرقام.. فلا مجال هنا لديستويفسكى ورواياته إذن.

من يؤمنون بالحب والعدل والخير والجمال والرحمة لا مكان لهم فى هذا العالم الذى يمارس لعبته المجنونة مكشوفًا أمام الفضائيات.. ولأننا لسنا ببعيد عن الحرب لا يوجد أحد فى هذا العالم بعيدًا عن الحرب الآن.. كان أن وجدها بعض التجار.. تجار الحروب.. أغنياء الحرب الذين كنا نسمع عنهم قديمًا ونشاهد بعضهم فى الأفلام.. ها هم يسنون أسنانهم ويجهزون لحربهم الخاصة لجمع ما يقدرون عليه من أقوات الناس.

فى أيام قليلة ارتفع سعر رغيف الخبز من جنيه إلى جنيه ونصف- المخابز المعروفة بالمخابز السياحية- وارتفع سعر كيس المكرونة جنيهين.. والسجائر بين جنيه وثلاثة جنيهات.. والغريب أن أسعار الخضروات ارتفعت هى الأخرى فيما ارتفع سعر الفول أيضًا.. ليزيد سعر «ساندوتش الطعمية» تلقائيًا.. ورغم كل التأكيدات التى خرج بها مسئولو التموين فى مصر عن مخزون القمح وعن سيطرة الحكومة على الأمر.. إلا أن «الإشاعة» وحدها تكفى لضرب كل جهود الحكومة فى ثانية.. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد اختفى «مفتش التموين» من القاهرة والمحافظات فى ظروف غامضة، ولا يزال جهاز حماية المستهلك يستهلك نفسه فى التصريحات التى لا وجود لها على الأرض.

باختصار .. هناك تجارة رخيصة تجرى على الأرض وتحتاج حتمًا إلى تدخل عاجل.. رحمة بأولئك الذين كتب عنهم ديستويفسكى يومًا.. عسى ألا تتم هزيمتهم مثلما هُزم صاحب «الشيطان».

شياطين الحرب الجدد لا يعنيهم سوى مكاسبهم، طالت الحرب أم قصرت، رغم أنهم يعرفون أن ما يفعلونه هم سيفعله آخرون بهم، فهم قطعًا لا يحتكرون سلع العالم بأكملها.. هم يعرفون أن الجميع سيتأثر وسيعانى، لكنهم «قتلة» يعتبرونها فرصة للحصول على «غنيمة»، وسيبدون حتمًا مبرراتهم.. مثلهم فى ذلك مثل أولئك الذين أقاموا الحروب التى لم تترك لنا من عذابات القتلى سوى أعدادهم.. مجرد أرقام.. وشواهد على القبور التى يشاهدها المارة فيقرأون الفاتحة.. أو ما تيسر من التراتيل ثم يواصلون الطريق إلى أعمالهم فى انتظار حرب جديدة.