رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العنصرية بين المعرفة والتكوين

 

كشفت الحرب الروسية الأوكرانية عن جانب فكرى، غير النواحى العسكرية والسياسية، جانب مرتبط بالنظرة العنصرية الأوروبية لشعوب العالم الثالث، وهى النظرة التى امتدت من تحقير القوميات والأعراق، وصولًا إلى الديانة، حتى إن نائبًا بولنديًا لم يخجل من التصريح بقوله: «استقبلنا مليونى لاجئ أوكرانى، ولن نستقبل مسلمًا واحدًا»، هذا عن الدين، أما عن التمييز على أساس اللون والبشرة فقد جاء فى قناة «بى بى سى» الإنجليزية، على لسان روس أتكنز، الذى قال بالنص إنه: «حزين لرؤية أوروبيين بيض، بعيون زرق، يُقتلون»! وبرز التمييز على أساس قومى فى تصريح تشارلى داغاتا موفد قناة «سى بى إس نيوز» الأمريكية، الذى قال: «مع كل الاحترام، أوكرانيا ليست مكانًا مثل العراق أو أفغانستان»! وجمعت مراسلة قناة «إن بى سى نيوز» بين التمييز على أساس الدين واللون فى قولها: «إن اللاجئين من أوكرانيا يختلفون عن القادمين من سوريا، لأنهم بيض ومسيحيون»! ووضعت مراسلة «آى تى فى» الإنجليزية الحدود بين شعوبنا وأوروبا حين قالت عن أوكرانيا: «هذه ليست دولة من دول العالم الثالث»، ثم أوشكت على البكاء وهى تضيف: «هذه أوروبا»!

نعم. هذه هى أوروبا يا سيدتى الفاضلة. أوروبا التى لم تنزع من نفوس أبنائها، بعد أكثر من نصف قرن، العنصرية، على الرغم من الاتفاقية الدولية الموقعة عام ١٩٦٥ برعاية الأمم المتحدة للقضاء على كل أشكال التمييز العنصرى، إن كانت على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومى. لكن انقضاء أكثر من نصف قرن لم يعلم «أوروبا» المتحضرة شيئًا متحضرًا. ولا يقتصر الأمر على التصريحات، لكن تلك النظرة تتجسد وتتحرك على أرض الواقع عندما تفتح البلدان الأوروبية أبوابها للنازحين الأوروبيين وتوفر لهم كل وسائل الراحة، ثم تغلق تلك الأبواب بعنف فى وجه السمر والأفارقة ومواطنى الشرق الأوسط، وتغلظ فى وجوههم كل إجراءات الرقابة الحدودية. ولا شك أن اتضاح تلك النظرة العنصرية هو أولى خسائر أوروبا فى الحرب الروسية الأوكرانية، وهى خسارة إنسانية على مستوى الحضارة أكبر بكثير من أى خسائر عسكرية، خاصة أن كل تلك التصريحات وردت على ألسنة من يفترض أنهم نخبة المجتمع الأوروبى من مراسلين ونواب برلمانات وسياسيين. 

وإحقاقًا للحق لا بد أن نقول إننا فى بلادنا قد نرتطم، أحيانًا، بميول عنصرية بالنسبة لذوى البشرة السمراء مثلًا. وأذكر أننى عندما سافرت إلى الاتحاد السوفيتى عام ١٩٧٢ كنت على قدر كبير من الوعى والثقة بأن البشر كلهم سواسية، وأن كل أشكال التمييز العنصرى بغيضة ومرفوضة. وتصادف أنه فى السنة الدراسية الأولى كنا سبعة طلاب، خمسة من أوروبا وأنا وطالب إفريقى أسود. تفوَّق الإفريقى فى امتحانات اللغة علينا جميعًا. وأحسست حينذاك بالغضب. ورأيت فى نفسى للمرة الأولى جانبًا عنصريًا، وذعرت من نفسى، فقد كان عقلى يقف ضد التمييز بداهة، لكن تكوين سنوات عمرى كله خذلنى. العنصرية إذن تكوين نفسى وعقلى ثقافى طويل يتشكل بالتربية، فى المنزل وفى المدرسة والجامعة، وبالاختلاط مع الآخرين، وفى كل الأحوال إذا كان لشعوب العالم الثالث عذرها فى خلق تكوين إنسانى جديد، فليس لأوروبا أى أعذار، على الأقل نحن لا نتبجح كل نصف ساعة بالحديث عن حقوق الإنسان وعن المساواة والحرية، وادعاء أننا ضد التمييز العنصرى.