رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحلة البحث عن الحنين في أعماق وديع الصافي

وديع الصافي
وديع الصافي

لكل شيء مظهر وجوهر، قد يختلطان أو يتشابه كل منهما مع الآخر، لكنهما يظلان حقيقتين ثابتتين.

هل تَصادف ذات مرة أن تُقابل رجلا وتنظر في عينيه فترى ما خلفهما كأنه خريطة واضحة المعالم والتفاصيل؟ وتضع يدك على صدره فإذا بها تغوص بسلاسة وكأن جسده ماء شفاف؟، إنه الجوهر لا غيره، وهذه هي حقيقة صوت وديع الصافي.. إنه شيء واضح كالمادة يمكنك أن تمسكه بكفك وتتحسس ملمسه، الناعم تارة والخشن أخرى، المتغير الأحوال والطبائع، لكنه الثابت في جوهره وحقيقته.

صوت وديع الصافي هو نداء الحنين، نداء نائم تحت الثلج من الأزمنة الغابرة، ناعس مثل وحش كامن قد ينقض كالبرق على فريسته في أية لحظة، وهو غافٍ مثل جروٍ أبيض له عينان فيروزتان، لا يملك من الحياة إلا البراءة والفطرة، باختصار هو دورة أحوال، ظاهرها القسوة وباطنها الرحمة، أولها التفجر وأوسطها الهدهدة وآخرها الدلال.. انفعالات مندمجة مُرتبكة خطِرة، وفصلُها عن بعضها مغامرة كبرى (هل تستطيع أن تفصل العسل عن الشمع فور إخراجه من خلية النحل؟) عليك إذن أن تتقبل تلك الحقيقة كما هي، وأن تتعلم كيف تتعامل مع الجمال بحذرِ مهندس في مفاعل نووي.

في مغامرته/ أغنيته «لا عيوني غريبة.. لا صوتي غريب» يمزج وديع الصافي كأس الحنين الغامض.. لا أتصور شعور إنسان يسير على الصراط ولا ينظر عن يمينه وشماله.. لا يمكن أن يعبر إنسان إلى أي أرض قبل أن يقارن بين النقيضين.. أبيض/ أسود، حار/ بارد، ضيق/ واسع، طري/ جامد.

«وديع» لم ينظر إلى أي اتجاه.. يرتشف أول رشفة من كأسه، وبمخاتلة ذكية يأوب بكلمة: (يا عيوني).. هذا الإرهاق في صوته ينم عن شيء ما خفيّ، يطلق العنان لـ«العُرَب» لتنال من أعصابنا، ثم تطلق بحّتُهُ دون رحمة: (لا عيوني غريبة.. لا صوتي غريب.. ضيّعني حبيبي.. ومن حدّي قريب).

هل وجد «وديع» الحنين الذي يبحث عنه؟ إنه يكابد وحشة خاصة أو تيهًا معقد الاتجاهات والنواحي، هو يجأر بأنين يكتم به صراخًا مستعرًا: (ضيّعني ولاقاني.. مرهون بإيديه.. لا كلمة حكاني.. حكاني بعينيه).

هذه بكائية أو لطمية حسينيّة يا «وديع»، إنك ترتشف من دمنا يا رجل لا من كأس حنينك، وها أنت تواصل عبورك على الصراط، غير مبالٍ، تُظهر للعيان جوهرك الحق، شرسًا وطيّبًا تتقدم، مثل (لاعب السيرك) في قصيدة أحمد عبد المعطي حجازي: (تبدي فنَّك المرعبَ آلاءَ وآلاءَ.. تستوقف الناس أمامَ اللحظة المدمرة.. وأنت في منازل الموت تَلجّ عابثا مجترئا.. وأنت تفلت الحبالَ للحبال.. تركتَ ملجأ، وما أدركتَ بعد ملجأَ.. فيجمد الرعب علي الوجوه لذة، وإشفاقا وإصغاءَ).

وأخيرا يا وديع تعبر، وتطلق على رؤوسنا رصاصة الرحمة/ حكمة الحياة، وينشق صوتك بـ(قصتنا طويلة.. أولها عتاب.. بالدنيا البخيلة.. كبّرنا العذاب).. نعم لا شيء مهم، نحن من أعطينا الأمور أكثر من حجمها وكبّرنا العذاب.

هل عثرنا نحن على الحنين المفقود؟ إنه ما زال راقدا في أعماق روحه، راقدا طوال اثنتين وتسعين عاما، عاشها «وديع» من نوفمبر 1921 إلى أكتوبر 2013.

ما الذي يمكن أن ينبت في جسد رجل عاش طفولته فوق الجبال الخضراء في بيروت؟! نعم جبال خضراء.. لكن هل تُطعم الجبالُ طفلا يصعقه البرد والفقر والحرمان؟.

خليط شهيٌّ من عناصر الطبيعة والبؤس الدنيوي عُجنت به نشأة الغلام، الذي لم يجد ملجأ يحتمي به إلا مدرسة دير المُخلص الكاثوليكية.. يقول الفتى في قرارة نفسه: «علّني أصير مُرنمًا ملائكيا.. أو حمامة بيضاء ترفرف فوق الأجراس كل عيد قيامة ويظنها الناس تجليا إلهيًّا».

لكن صوته لم يكن يحتمل أن يقيّد أكثر من ثلاث سنوات داخل الجدران الحجرية للمكان الروحاني الهادئ.. لا بد له من انطلاقة، فُسحة، تفجر، انشطار. 

هناك نظرية تقول إن أصحاب الأصوات العبقرية، يمتلكون قدرة خاصة على «تقشير طبقاتهم الصوتية الأكثر عمقا وغير المستغلة ليتسنى لهم استخدامها، وكلما ارتفعت تردداتهم النغمية، أمسكوا بتردد أعلى»، دعونا نبسط المسألة: الأمر أشبه بعامل مناجم ينقب عن الفحم في أرض حبلى بالمعادن، وكلما عثر على مراده، توغل في الحفر أكثر، فحصل على منتوج أكثر جودة ونقاء.

تهدم هذه النظرية فكرة امتلاك الطفل، الموهبة والصوت النفيس منذ الولادة.. يقول كيث شنايدر، العالم في مجال الطب الحيوي، إن «أصحاب الأصوات القوية، يمتلكون قشرة سمعية أولية، وكل جزء من القشرة يتجاوب مع نطاق أوسع من الترددات، وعندما يؤدون نغمة موسيقية أكثر عمقا، ينشّطون جزءا أكبر من قشرتهم».

أكاد أرى العرق يتساقط من جبين «وديع» وهو يحفر ويحفر ويحفر، ويستخرج ويشكل من أبهاء صوته كل ما هو لمّاع وخاطف للعين، روحانيٌّ شهوانيٌّ، مراوغ ومستذئب، قدسيٌّ وسافر.. عجينة استثنائية تنبض بالأسرار.. أسرار ربما يفك طلاسمها الوحيدون والمنتظرون طويلا، الضائعون، المفارقون، المبتهجون، أصحاب الهوس والأحوال الشاردة، إلى ما لا نهاية له من أنواع البشر. 

في أغنيته «ولو»  يناجينا «وديع» وكأنه يكتب مرثية خاصة للروح، يحيي كرنفالا للألم والمعاناة والفراق، يروي سيرة دنيا متقلبة ورحلة عجيبة، ابتدأها الطفل الذي أُنهكت عظامه الطرية ليساعد عائلته على تكاليف الحياة، وعاشها المطرب الواعد الذي شردته الحرب الأهلية في وطنه، موزّعا في بلاد الله، يقفز من هنا إلى هناك ومن بعيد إلى قريب، وخبأها في أعماقه النجم الذي تكشَّف جوهره صافيا، عاريا إلا من التجلي الخالص المكتمل.

و«ولو» يا «وديع».. لماذا تحاصرنا دائما بالأسئلة الوجودية والافتراضات، وكأننا نمسك بخيوط اللعبة نشدها من هنا ونرخيها إلى هناك ونربطها ونحلها كما يحلو لنا؟ وتصر عليها: «ولو»، وتطيل وتمط وتنثني وتتمطى وتتأرجح وتتبختر في حزن مقيم: (ولو هيك بتطلعوا منا؟ وما تعودوا تسألوا عنّا.. ولو عالقليل تذكروا الماضي.. بسمة على شفاف الوفا كنا.. ولو ولو».

ما أقساك يا رجل.. أنعيد اكتشافك من جديد؟ كيف يخبئ هذا الوجه المشرق والملامح المبهجة والعينان البراقتان، خلفهم كل هذه العدمية والكآبة.. لا بد أنها أصداء خفية لمسيرة السأم والحزن والترحال.

يعود ويستغيث في صمت موجع: «ولو هيك بتتركوا المجروح؟ ع فراقكم صفّى ع آخر روح.. متعوب قلبو منكسر فكرو.. ع دروبكم روحو بتجي وبتروح.. ولو.. ولو ولو ولو ولو».

ما أجمل التعبير الشعبي لأمهاتنا المصريات وهن يصفن الرجل وهو في حالة من القلق المتوتر والارتباك: «لا على حامي ولا على بارد».. أراه رسما بسيطا للتقلب المحموم للإنسان في لحظات إشراقه الروحاني والنفسي. 

يصرخ «وديع» في حسرة وارتجاف: «ولــــــــو.. كيف تا هالقسا كلو.. مهما جرى بالبال بتضلوا.. عيني أمان حبيبي.. بكرة إن سألني مطل ضيعتكم.. وين أخت الشمس شو بقلو؟ ولو ولو حبيبي.. قالت ضحاك.. ما بريد تعقد هالجبين.. استحليت ع شفافك الضحكة أعرفا.. عيني.. قلت كيف بدي أضحك وقلبي الحزين.. تيتّم وصادق عالمحبة والوفا.. ولو.. ولو».

وكأنك تخاطب ذواتنا، تعقيدات أرواحنا، همومنا وأثقالنا، وتردد: «كيف بدي أضحك وقلبي الحزين؟!».. وكأنك تقول: «ها أنا ذا أخبئ في أعماقي، حنيني الخاص الذي سيدفن معي في قبري، ولن يستخرجه أحد من جوفي، هذا لُغزي الأبدي، هذه أسطورتي، لأن الحياة ببساطة ستظل كما هي، ولا مانع من أن نضحك من بكائنا وأحزاننا».

وكأنني أراك تغني يا «وديع» ثم تقهقه وتقهقه وتقهقه، وتتلبس قناع فريدريك نيتشة في «هكذا تكلم زرادشت»: « من منكم بمستطاعه أن يضحك ويكون في الوقت نفسه سامياً؟ الذي يصعد إلى الجبال الشواهق، يضحك من كل المآسي، مسرحيات كانت أم حقيقة».