رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كشف عنها شاعر الثلاثية المقدسة

محمد الباز يكتب: قصة ثلاث أغنيات مجهولة فى حياة أم كلثوم

محمد الباز
محمد الباز

الأولى عن الاقتصادى الخالد طلعت حرب وكانت تصفه بـ«زعيم الثائرين»

الثانية عن نكسة ٦٧ ومطلعها «قم واسمعها من الأعماق فأنا الشعب»

الأخيرة كانت عن نصر أكتوبر العظيم لكن المرض منع تسجيلها

هل تعرفون الشاعر صالح جودت؟ 

إذا كنتم لا تعرفونه فهو الشاعر المصرى الذى عاش ما بين العامين ١٩١٢ و١٩٧٦، ولد فى محافظة الشرقية، والده كان مهندسًا زراعيًا، وهو ما جعل الأسرة دائمة الترحال بين أقاليم القطر المصرى، وهو ما زرع فيه حبه للترحال، فأصبح واحدًا من كتّاب أدب الرحلات، وله فى ذلك كتاب مهم هو «قلم طائر». 

حصل صالح على شهادة الثانوية العامة من المدرسة الثانوية بالمنصورة، وهناك حدثت النقلة المهمة فى حياته، فقد تعرف فى المنصورة على الشعراء على محمود طه وإبراهيم ناجى ومحمد الهمشرى، ودخل حياته بقوة رياض السنباطى، الذى أصبح بعد ذلك واحدًا من كبار ملحنينا، وقام بتلحين عدد من القصائد التى كتبها صالح جودت لكبار المطربين والمطربات. 

تخرج صالح جودت فى كلية التجارة، لكن الدراسة الجافة التى تقوم على الأرقام والحسابات لم تمنعه من أن يواصل كتابته الشعر، فأصدر، وهو لا يزال طالبًا، ديوانه الأول، وانضم إلى مدرسة «أبوللو» الشعرية التى أسسها أحمد زكى أبوشادى فى ١٩٣٢. 

بحكم الدراسة عمل صالح محاسبًا فى بداية حياته، لكن نداهة الصحافة لم تتركه فى حاله، فانتقل إلى العمل فى جريدة «الأهرام»، بعد حصوله على ماجستير فى العلوم السياسية، وكتب فى مجلة «الإذاعة» بابًا شهيرًا هو «حقيبة الرسائل» كان يوقعه بـ«ص. ج»، ثم انتقل بعد ذلك إلى «دار الهلال»، وفى العام ١٩٧١ عين رئيسًا لتحرير مجلة «الهلال»، وأصدر إلى جوارها مجلة «الزهور» ليستكتب فيها الأدباء الشباب. 

دخل «جودت» إلى عالم الفن من بوابة الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب الذى تعرف عليه فى جلساته مع أحمد شوقى، وامتدت بينهما المناقشات التى ولدت على هامشها قصيدته الشهيرة «الفن» التى يقول فى مطلعها: «الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها/ نجوم غير النجوم من حسن منظرها». 

كتب «جودت» هذه القصيدة للدفاع عن الفن ونجومه، لكنه جاء فيها بمدح للملك فاروق راق له، يقول: «الفن مين يوصفه إلا اللى عاش فى حماه/ والفن مين يعرفه إلا اللى هام فى سماه/ والفن مين أنصفه غير كلمة من مولاه/ والفن مين شرفه غير الفاروق ورعاه». 

قاد هذا المقطع صالح جودت إلى أن يصبح مداح الملوك والرؤساء فى القرن العشرين. 

كتب «جودت» بعد هذه القصيدة قصائد أخرى فى مدح الملوك والرؤساء، مثل قصيدة «يا رفيع التاج» التى غناها عبدالوهاب بمناسبة زيارة الملك عبدالعزيز آل سعود إلى مصر. 

وعندما قام فريد الأطرش بإحياء حفل زفاف صديقه ملك الأردن الملك حسين بن طلال على الملكة دينا، غنى من كلمات صالح جودت: «يا أغلى من أمانينا/ وأحلى من أغانينا/ يا زينة الدنيا يا دينا». 

بعد ثورة ١٩٥٢ أصبح صالج جودت جنديًا من جنودها. 

نذكر له أغنيته الشهيرة التى غناها له محمد عبدالوهاب «حرية أراضينا فوق كل الحريات»، وعندما أعلن عبدالناصر تنحيه فى ٩ يونيو ١٩٦٧، وخرجت الجماهير تطالبه بالعدول عن قراره، كتب صالح: «قم واسمعها من أعماقى/ فأنا الشعب/ ابق فأنت السد الواقى لمنى الشعب». 

وبعيدًا عن الأغانى الوطنية وقصائد المديح للملوك والرؤساء، استطاع صالح جودت أن يكتب اسمه فى سجل شعراء الأغنية المصرية بـ٦٤ أغنية كتبها لكبار المطربين والمطربات، فكتب لعبدالوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد ومحمد فوزى وعبدالحليم حافظ وشادية ووردة وعادل مأمون.. وأم كلثوم. 

هنا نتوقف عند السيدة أم كلثوم، التى كتب صالح جودت عنها مقالًا مهمًا نشرته مجلة «الهلال» فى عدد مارس ١٩٧٥، حكى فيه حكايته كلها مع كوكب الشرق. 

احتراف الكتابة بمقال دفاعأ عن أم كلثوم 

البداية كانت قدرية، وسأترك صالح يرويها بنفسه. 

يقول: «كانت أم كلثوم قدرًا فى حياتى، ذلك أننى نشأت منذ صباى على حب الأدب، دون أن يدور بخلدى أن صناعة القلم ستكون قدرى فى يوم من الأيام، وذات يوم وأنا فى الثانية عشرة من عمرى، تلميذًا بمدرسة المنصورة الثانوية، وقعت عيناى فى مجلة الصبح على مقال بإمضاء «محمدين»- وهو الاسم الذى كان الناقد الفنى المرحوم محمد عبدالرازق يوقع به مقالاته- يحمل فيه على أم كلثوم حملة قاسية، ويزعم أن الهالة التى تحيط بها لا فضل لها فيها، وإنما الفضل كله لكلمات رامى وألحان القصبجى». 

«وكنت فى صباى، كما ظللت طول حياتى، مفتونًا بصوت أم كلثوم، حتى أنى لا أنام ليلة دون أن أسمع منها شيئًا، وهكذا غضبت لأم كلثوم عقب قراءة ذلك المقال، وأمسكت بالقلم لأكتب أول مقال فى حياتى، دفاعًا عن أم كلثوم». 

«وبعثت به إلى مجلة الصباح، وأنا قليل الأمل فى نشره، فقد كنت أعرف أن الصحف لا تنشر إلا لأصحاب الأسماء المعروفة، وكان منهم على صفحات الصباح المرحوم الدكتور زكى مبارك، وصديقنا الطبيب الكاتب الشاعر الزجال الدكتور سعيد عبده وغيرهما». 

«وكانت دهشتى بالغة حينما فوجئت فى الأسبوع التالى بالمقال منشورًا فى مكان حفى، وبقلم الأستاذ الكبير صالح جودت». 

«ويبدو أن صاحب المجلة وقع فى لبه اسمى واسم عم لى، كان من كبار رجال القضاء والأدب معًا فى ذلك الحين، ولعل هذا كان سر عبارة الأستاذ الكبير التى استغللتها، فجعلت أبعث للمجلة كل أسبوع بمقال أو قصيدة، والمجلة تنشر كل ما أبعث به وتقرنه بعبارة الأستاذ الكبير». 

«وهكذا كان مقالى عن أم كلثوم الذى جرنى إلى احتراف صناعة القلم». 

الشيخ رفعت يغني للست « وحقك انت المني والطلب »

عندما التقى صالح جودت السيدة أم كلثوم لأول مرة بعد هذا المقال، غمرته بكلمات حلوة لا يحسب- كما يقول- أنه كان يستحقها فى تلك السن، كل ما شعر به يومها أنها حنان يتدفق فيضفى على من تحدثه نشوة روحية ساحرة. 

يكشف جودت عن جانب ليس مشهورًا عن أم كلثوم، يقول: كنت ألتقى بها عند أمير قراء الذكر الحكيم المرحوم الشيخ محمد رفعت، فى بيته بشارع الزيدى بالسيدة زينب، وكان الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب يحرص هو الآخر على التردد على بيت الشيخ رفعت، لأنهما- أم كلثوم وعبدالوهاب- من حفظة الكتاب، ومن أصحاب النشأة الدينية والاتجاه الصوفى، وهما من أكثر المفتونين بصوت الشيخ. 

كان الشيخ محمد رفعت- كما يصفه صالح- ظريفًا فى مجلسه، يلون الحديث والغناء، وكثيرًا ما كان يمتعهم بغناء نداء الباعة فى حوارى القاهرة، باعة الخيار والجميز والتوت وعلى لوز وغزل البنات. 

فى إحدى الليالى غنى الشيخ محمد رفعت لضيوفه أغنية السيدة أم كلثوم: «وحقك أنت المنى والطلب/ وأنت المراد وأنت الأرب». 

يقول صالح: غناها ولونها وتصرف فيها حتى بلغ السماء، وقد تتلمذت أم كلثوم على أصوات المشايخ، وأولهم والدها الشيخ إبراهيم، ثم الشيخ أبوالعلا محمد، والشيخ محمد القصبجى «كان شيخًا فى أول حياته»، والشيخ على محمود، والشيخ سيد درويش، والشيخ محمد رفعت، والشيخ زكريا أحمد. 

فى إحدى الليالى أيقظت أم كلثوم صالح جودت، اتصلت به تليفونيًا، وقالت له: اسمع: «سالمة يا سلامة/ رحنا وجينا بالسلامة»، كانت تغنى وتعيد وتجيد وتزيد فى أغنية سيد درويش، وهى تقول له: هذا اللحن يؤرقنى من جماله، وأنها تتمنى أن يكتب لها كلمات جديدة على إيقاعه نفسه. 

وقيعة صحفية بين الشاعر وكوكب الشرق

فى بدايات العام ١٩٧١ حدثت وقيعة بين صالح جودت وأم كلثوم. 

يحكى صالح: «عرفت أم كلثوم منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ولا أذكر أننى اختلفت معها طوال هذه السنين إلا مرة واحدة، إذ ساور بيننا بالوقيعة صحفى لبنانى، كتب عنى كلمة غير طيبة ونسبها إلى أم كلثوم، ورأيت أن أخاصمها فى صمت، ولم أصارح أحدًا بذلك إلا عبدالوهاب». 

«حتى كانت ليلة ما أزال أذكر تاريخها- ٢ مايو ١٩٧١- وكان سفير السودان بالقاهرة قد وجه دعوة لبعض أصدقائه إلى العشاء فى حديقة بيته بالمعادى، وكنت بين المدعوين، وذهبت، وكان أول مائدة صادفتنى أربعة لم أتبين منهم فى بادئ الأمر إلا عبدالوهاب، فتعانقنا وقال لى: اقعد معانا.. فيه كرسى فاضى». 

«تلفت إلى مجالسيه، فإذا هم محافظ الجيزة، والمهندس محمد الدسوقى- ابن شقيقة أم كلثوم- وأم كلثوم، وحلًا للموقف، اكتفيت بأن أقول لهم السلام عليكم بلا مصافحة، فقال لى عبدالوهاب: ما تسلم على ثومة.. ولا لسه زعلان منها، قلت: طبعًا، وبدت الدهشة على أم كلثوم، وقالت: زعلان منى؟ ليه؟». 

«روى لها عبدالوهاب القصة، فأقسمت بالله ثلاثًا أنها لم تقل تلك الكلمة غير الطيبة، ولم تقرأ المجلة اللبنانية التى نشرتها، وأضافت إلى ذلك قولها: ولك أن تكذب هذا الصحفى على لسانى، وكل اللى قاعدين شهود، وجذبتنى من يدى، فتصافحنا بحرارة، وصدقتها من الأعماق». 

جودت يكتب لأم كلثوم  والإذاعة تمسح شريط الحفل 

لكن كيف أصبح صالح جودت من شعراء أم كلثوم؟ 

فى بدايات علاقتهما كانت أم كلثوم كثيرًا ما تسأل صالح جودت أن يكتب لها بعض الأغانى، لكنه كان يعتذر لها، وكانت حجته فى ذلك أنه لا يريد أن يغضب أحمد رامى الذى كان أعز أصدقائه، كما أنه أولى المؤلفين بأم كلثوم وأنجحهم معها، وكانت أم كلثوم تعرف سبب اعتذاره الدائم وتقدره. 

لكن حدث ما جعل قناعة صالح تتغير. 

يقول هو: «حدث فى السنوات الأولى من ثورة ١٩٥٢، أن أراد رجال الثورة إحياء ذكرى الزعيم الاقتصادى الخالد طلعت حرب، الذى لقى كثيرًا من الجحود فى أخريات أيامه، رغم الصروح الشامخة التى أقامها على أرض مصر». 

«وسألنى القائمون على تنظيم الحفل أن أنظم أغنية فى هذا الحفل تغنيها أم كلثوم، فأحلتهم إلى رامى، الذى اعتذر لهم بأنه لم يكن على صلة وثيقة بطلعت حرب، وأحالهم إلىّ بدوره، لأننى عملت مع طلعت حرب بضع سنوات فى بنك مصر قبل اعتزاله». 

«ونظمت الأغنية وغنتها أم كلثوم فى الحفل، وكان مطلعها: (يا رجال الثورة البيضاء فى الوادى الأمين/ مجدوه.. خلدوه.. إنه زعيم الثائرين)، وقدمت الإذاعة الحفلة، وسجلتها، ومن أسف أنها لم تحتفظ بالأغنية، بل مسحتها فيما تمسح من الأشرطة، ولكن التسجيل لا يزال موجودًا عند نفر قليل من الهواة». 

الثلاثية المقدسة .. وأعنية عن العنصرية لم تكتمل 

التعاون الكبير بين أم كلثوم وصالح جودت كان فى أغنية «الثلاثية المقدسة». 

لكن قبل أن يصلا إليها، كان أن تلاقيا على هامش تنحى عبدالناصر. 

يقول صالح: «مرة أخرى التقينا، أم كلثوم وأنا، فى عمل أنجزناه تأليفًا وتلحينًا وأداء فى ليلة واحدة من الليالى الأولى للنكسة، لعله يرد للشعب بعض الثقة فى نفسه وجيشه وزعامته، ولعل هذا العمل لا يزال محفوظًا فى أرشيف الإذاعة، ومطلعه: (قم واسمعها من الأعماق/ فأنا الشعب)». 

نصل إلى الثلاثية المقدسة. 

يقول صالح: «كان الفضل الأول فى (الثلاثية المقدسة) لصديقنا وأستاذنا الدكتور عبدالعزيز كامل- نائب رئيس الوزراء- الذى استوحينا الفكرة من حديث له فى عيد الهجرة، ولم يفتنى فى هذه المرة أن أستأذن رامى، لأننى كنت يومئذ شديد الشوق إلى بيت الله، لعل بعض الدعاء ولو بالغناء يرفع عنا الغمة». 

«وبعد نجاح الثلاثية المقدسة أرادت أم كلثوم أن تصنع عملًا إنسانيًا جليلًا.. أغنية فى محاربة التفرقة العنصرية تسجلها لتذاع على نطاق عالمى، وكانت هذه الأغنية هى الأخرى مستوحاة من بحث للدكتور عبدالعزيز كامل عن موقف الإسلام من التفرقة العنصرية، ورضيت أن أنظمها، أولًا اقتناعًا بإنسانية هذا العمل، وثانيًا لأن رامى فى ذلك الحين كان يعانى محنة اكتئاب نفسى تحول بينه وبين النظم». 

«ولكن قسوة القدر لم تشأ أن تخرج هذه الأنشودة إلى النور، لنشوب بعض الأحداث السياسية فى ذلك الوقت، بيد أن أم كلثوم لم تنس هذه الفكرة، فكانت تذكرنى بها، وتتمنى لو حققتها، لولا أن أخذ الضنى يزحف إليها». 

أغنية نصر أكتوبر التي حرم الموت أم كلثوم منها 

من بين ما رواه صالح جودت، ويمكن أن نعتبره جانبًا خفيًا فى حياة أم كلثوم الفنى، أن آخر أغنية لها أرادت أن تغنيها لمصر، ولهذه الأغنية قصة حزينة. 

يقول صالح: «فى مطلع صيف العام ١٩٧٤، قالت لى أم كلثوم إنها محزونة، لأنها غنت لمصر فى كل مناسبة حتى فى النكسة، ولم تغن لها يوم النصر، لأن المرض كان يناوشها يومئذ فى قسوة، وسألتنى أن أنظم لها أنشودة تغنيها فى مناسبة مرور عام على المعركة المنتصرة، أى فى ٦ أكتوبر ١٩٧٤، ونظمت الأنشودة، وبدأ رياض السنباطى فى تلحينها، ولكن آلام المرض أخذت تزداد إلحاحًا على أم كلثوم، فلم تحقق لها آخر أمنية.. فى آخر أغنية».