رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالعزيز كامل يكشف ما أخفته الست «1»

 محمد الباز يكتب: وزير الأوقاف يتحدث عن أم كلثوم التي لا يعرفها أحد

د. محمد الباز
د. محمد الباز

استلهمتْ كلمات «الثلاثية المقدسة» من خطبة دينية لعبدالعزيز كامل

مكثتْ ثلاث ساعات تختار موسيقى لبرنامج إذاعى سجل معها

فى ٣ فبراير ١٩٧٥ توفيت السيدة أم كلثوم. 

تسابقت الأقلام لتودعها، وعلى هامش الرثاء بدأت أسرار الست- التى لم تكن تفصح عن الكثير مما تفعله- فى الإعلان عن نفسها. 

من بين من كتبوا فى رثائها، كان الدكتور عبدالعزيز كامل. 

فى مجلة الهلال عدد مارس ١٩٧٦ كتب نائب رئيس مجلس الوزراء للشئون الدينية ووزير الأوقاف مقالًا اختار له عنوانًا دالًا هو «من الأفق الدينى لأم كلثوم». 

يحتل عبدالعزيز كامل مساحة خاصة فى حياتنا العامة، فهو واحد من قيادات جماعة الإخوان، اقترب من مؤسسها حسن البنا، لكنه قرر أن ينفصل عن الجماعة وهو فى السجن الذى دخله ضمن تنظيم سيد قطب فى العام ١٩٦٥، وعندما خرج من السجن استطاع أن يصبح واحدًا من رجالات الدولة، حتى تولى وزارة الأوقاف، وأصبح نائبًا لمجلس الوزراء للشئون الدينية. 

نعرف الكثير عن روحانيات أم كلثوم، من خلال الأغانى الدينية التى شدت بها، وسِرنا معها فى رحلتها مع القرآن الكريم الذى بدأت حفظه وهى طفلة صغيرة فى كتاب القرية، لكن ما جاء فى مقال عبدالعزيز كامل كان مختلفًا تمامًا. 

يمكنك أن تمسك فى مقال عبدالعزيز كامل بما لا تتخيله من مشاعر إنسانية راقية جمعته بالسيدة أم كلثوم، لكن لا تشغلنى هنا المشاعر، فهى ملكه وحده، وقد تحدث عنها بما يليق بها، تشغلنى أكثر الحكايات التى يمكن أن تسهم بصورة كبيرة فى رسم ملامح جديدة ومختلفة للسيدة أم كلثوم. 

اقترب عبدالعزيز كامل من أم كلثوم للدرجة التى تجعلنا نثق فيما قاله، وعندما تتأمل فيما رواه عنها، ستجده يمسك بالجانب الروحى فى حياة أم كلثوم أكثر من غيره، ولا تعتقد أنه سيحدثك عن صلاتها أو قيامها، ولكنه يتحدث عن مساحة إنسانية لم يتطرق إليها كثيرون ممن تحدثوا عن أم كلثوم. 

زيارة إلي جمعية أصدقاء مرضي روماتيزم القلب للأطفال 

فى بعض أيام الجمعة، وفى أوقات الضحى، اعتادت السيدة أم كلثوم أن تقضى ساعات مع الأطفال المصابين بروماتيزم القلب. 

المكان كان «جمعية أصدقاء مرضى روماتيزم القلب للأطفال».. كنت تجده على يمين الطريق الصاعد إلى أهرام الجيزة، وهو عبارة عن مستشفى وعيادة خارجية ومشغل ومدرسة ومعمل علمى تتجه كل بحوثه إلى رعاية الأطفال المرضى بروماتيزم القلب، وقد تطور من مبنى صغير متواضع إلى أن أصبح مؤسسة متكاملة.

فى زياراتها المتعددة كانت أم كلثوم تجلس على كرسى خشبى خشن، وإلى جوارها بعض الأطفال، وهى تفتح لهم ذراعيها، وتدعوهم بحنان وابتسامة ليقتربوا منها، كانوا يلقون، أحيانًا، كلمات قصارًا أو أبياتًا من الزجل الطفولى، ويلتقطون معها صورًا تذكارية، ويعلمون أنها عنصر فعال فى رعايتهم، وأنها تقيم بعض حفلاتها لتعود أرباحها إليهم. 

يقول «كامل»: اعتدنا فى كل رمضان أن نلتقى مرة بعد الإفطار فى هذا المركز، ما أعانتها صحتها وظروفها على ذلك، كان لقاء دينيًا أعرض فيه لشرح آيات من كتاب الله، أو قصة من قصص الأنبياء، إلى أن كانت هزيمة يونيو ١٩٦٧. 

ظلت أم كلثوم محافظة على اللقاء، ولكن- كما يقول كامل- الابتسامة والفرحة غاصت من وجهها، الأحاديث الدينية أصبحت عن معركة عين جالوت وحطين وعوامل النصر فيها، والدروس من السيرة النبوية تركز حول الصمود، وبعض ما أصاب المسلمين فى غزوة أحد وفى المراحل الأولى من غزوة حنين. 

كانت أم كلثوم تعلق على هذه الأحاديث من حين إلى حين، والمعركة والنصر قضيتها، وكانت تقول: كل أملى أن أعيش حتى أرى النصر، أدعو الله، وعلينا جميعًا أن نتعاون من أجل هدف واحد، استرداد أرضنا والانتصار على عدونا. 

حلم أم كلثوم  بتسجيل القرأن والسيرة النبوية 

من بين ما يذكره عبدالعزيز كامل من كلام أم كلثوم فى جلساته معها فى جمعية أصدقاء مرضى روماتيزم القلب للأطفال ما قالته عن أحلامها المؤجلة، والتى يبدو أنها رحلت دون أن تنفذها. 

قالت له أم كلثوم: أملى أن أسجل السيرة النبوية فى ثلاثين حلقة، كل حلقة نصف ساعة، وما زلت أختار الشعر، قابلت كثيرين، وقرأت لكثيرين، وكلفت كثيرين وما زلت فى مرحلة الاختيار. 

وقالت له: كان أملى ولا يزال أن أسجل القرآن كاملًا، قراءة صحيحة أراعى فيها كل أحكام التجويد بإشراف مختصين، وأعطى كل آية حقها فى الأداء، قراءة آية الرحمة غير قراءة آية العذاب، وقراءة آية الدعاء غير قراءة آيات القتال. 

ويعقب «كامل» على كلام أم كلثوم بقوله: كان حديثنا هذا بعد تفسير لسورة طه بما فيها من محبة الله وتوجيهه لرسوله الأعظم، صلوات الله وسلامه عليه، ومشاهد قصة موسى، بعد هذا تتوالى فى الطور وأرض مدين، والعودة إلى مصر والخروج، وكلها تركز على رعاية الله لأنبيائه ومدهم بعونه على طريق الحق، وآمال الكبير دائمًا أوسع من حياته. 

 حديث إذاعي خاص تقدمه أم كلثوم 

قبل شهر رمضان فى العام ١٣٩٠ هجرية- ١٩٧٠، تواصلت أم كلثوم مع عبدالعزيز كامل، قالت له: الإذاعة فكرت فى عمل برنامج جديد يقوم فيه كبار الفنانين بدور المذيعين، ويختار كل منهم شخصية يسجل معها حديثًا، وأرغب أن تسجل معى هذا الحديث، وأود أن نلتقى مساء اليوم فى منزلى، وفى ذهنى موضوع، ولكن أحب أن أسمع رأيك. 

رد عليها كامل: يسعدنى أن أسجل معك هذا الحديث، وأقترح أن نتناول دور المرأة المسلمة عبر التاريخ، نبدأ من العهد النبوى، سيرًا إلى عهد الفتوح الكبرى، ونذكر نماذج من بطولات أمهاتنا وأخواتنا فى سيناء والقتال فى حرب يونيو ١٩٦٧، فهذه الهزيمة مع مرارتها الشديدة كانت فيها بطولات رائعة من الرجال والشباب والنساء. 

كانت مدة الحديث المحددة نصف ساعة فقط، قال كامل لنفسه: أذهب قبل الموعد بخمس دقائق، ونسجل فى نصف ساعة، وربع ساعة لمراجعة بعض الأجزاء، وأستطيع أن أفرغ من الموضوع كله فى ساعة. 

ذهب عبدالعزيز كامل فى الموعد، وعرض على أم كلثوم نقاط الحديث، فوافقت عليها، وبدأ التسجيل، وكان عليها أن تقول فى الختام قول الله تعالى «وما النصر إلا من عند الله»، فقالتها وأمرت بأن يعاد تسجيلها، وهى تقول: إن إلقائى لم يحمل كل إحساسى، أريد أن أركز على كلمة النصر، وهو قوة، وأن أركز فى نفس الوقت على التوجه إلى الله، سأعيدها. 

أعادت أم كلثوم الآية، ثم قالت لمن يحيطون بها: نطق النصر مناسب، ولكن نطقى للفظ الجلالة يحتاج إلى توجه أكثر إلى الله، يحتاج إلى ضراعة، إلى انتقال من عزة النصر إلى الخضوع لله والشكر له، أريد أن يحمل النطق معانى العزة والشكر والخضوع. 

بدأت أم كلثوم فى إعادة مقاطع كثيرة من حديثها، ليمتد الحديث إلى ما يزيد على ساعتين، ثم التفتت بعد ذلك إلى فريق التسجيل، وقالت له: سأكون معكم فى الاستديو غدًا لاختيار الموسيقى المصاحبة. 

قالوا لها: نستطيع أن نقوم بذلك نيابة عنك. 

فقالت لهم: لا.. قد تختارون موسيقى خفيفة غير ملائمة، أو موسيقى بها آلة لا تتفق مع وقار الحلقة، سأكون معكم غدًا. 

سأل عبدالعزيز كامل المسئولين عن تسجيل الحلقة بعد ذلك: كم أمضت معكم فى الاستديو فى اختيار الموسيقى المصاحبة للحلقة؟ 

فقالوا: ثلاث ساعات. 

ويعلق كامل على هذا الموقف بقوله: كانت هذه تجربتى فى التسجيل معها، وسألت أصدقائى الذين يعملون معها، فقالوا: هذا دأبها فى كل أمرها، الاختيار والدقة فى الاختيار، المراجعة، الحس المرهف، الفناء فى العمل، لا ترضى بأقل من أعلى درجات الإجادة فى كل ما تقوم به. 

أم كلثوم تنسج أغطية رأس للجنود بيديها 

فى العام ١٩٧١ زارت أم كلثوم عبدالعزيز كامل فى مكتبه بالوزارة. قبل أن تذهب اتصلت به، وقالت له: لى مسجد أريد أن أضمه إلى وزارة الأوقاف، فقال لها: الأمر يسير، ولكنى أحس بأن هناك سببًا آخر، فهل أستطيع معرفته؟ إن كانت هناك مشكلة تتعلق بالأوقاف يمكن إعداد أوراقها قبل حضورك، رغم أن الحضور فى حد ذاته إسعاد للوزارة وكلنا فى انتظارك. 

دخلت أم كلثوم فى الموعد المحدد، وإذا بها تقول لكامل: لا أكتفى بما أقوم به، الكلمة وحدها لم تعد تكفينى، حفلاتى المحلية والخارجية من أجل المعركة لا تكفى، إننى أنسج بيدى أغطية الرأس للجنود، بلوفرات لهم، وسجائر أرسلها، والمطلوب منك المصاحف، إننى أحس أن يدى يجب أن تعمل، ماذا أستطيع أكثر من نسج أغطية الرأس، والمشاركة فى البلوفرات، هذا جهد يدى، أود أن أحس أن جانبًا منى هناك، ليست الكلمة وحدها، أريد أن أرسل أشياء تلبس وتتحرك فى ميدان المعركة. 

كان عبدالعزيز كامل يستمع إلى أم كلثوم، التى أكملت: تأتى عربات القوات المسلحة أمام بيتى، وتأخذ هذه الأشياء كلها، وقد أوصيت بكتمان ذلك كله، ماذا أستطيع أن أعمل أكثر من جمع المال والعمل اليدوى والحفلات وجمع كلمة العرب حول المعركة؟ أريد أن أعمل أكثر. 

ميلاد أغنية الثلاثية المقدسة علي يد وزير الأوقاف 

أنهت أم كلثوم حديثها إلى عبدالعزيز كامل، ليجدها تقول له: والآن جاء دورك؟ 

فسألها: فى أى شىء. 

قالت له: لقد استمعت إليك فى حفل المولد النبوى الشريف المذاع من مسجد الإمام الحسين، رضى الله عنه، لقد أرسلت فيه بثلاث رسائل، الأولى من المسجد الحرام والثانية من المسجد النبوى والثالثة من المسجد الأقصى، الفكرة أعجبتنى والمضمون أعجبنى. 

كان عبدالعزيز كامل قد قال فى كلمته: المسجد الحرام فى هذا الحديث رمز الوحدة والتوحيد، ومسجد المدينة المنورة رمز المجتمع الإسلامى بتضامنه واتحاده من أجل بناء ذاته داخليًا والدفاع عنه، والمسجد الأقصى رمز المعركة، ونحن فى حاجة إلى الوحدة والمجتمع المتماسك تمهيدًا لخوض معركة المصير. 

نظرت أم كلثوم لـ«كامل» وقالت له: تصور نفسك مرة أخرى فى مسجد الحسين، واذكر مقاطع من هذا الحديث، لحظات تجمع فيها نفسك وتتحدث وأسمعك، ثم أقول لك بعد هذا ما أريد. 

ابتسم «كامل» وقال لها: لقد وضعتينى فى صورة غير متوقعة، كل أمل من يجلس معك أن يستمع إليك. 

قالت: ستعرف السبب بعد قليل. 

بدأ «كامل» يستعيد حديثه، حتى وصل إلى الفقرة التى قال فيها: ووقف المسجد الأقصى نبيلًا أسيرًا، محترقًا جريحًا، يخاطبنا قائلًا: أما آن لكم أن تعيدونى إلى أخوى، المسجد الحرام ومسجد المدينة؟ أما آن لكم أن تفكوا أسارى، فلا أبقى تحت سيطرة باغية عادية. 

فاجأت أم كلثوم عبدالعزيز كامل بقولها: سأغنى هذا الحديث، سأغنى هذه الثلاثية المقدسة.. هل النص عندك؟ 

أعطاها عبدالعزيز كامل النص، وصاغه شعرًا صالح جودت، ولحنه رياض السنباطى، وأصبحت لدينا أغنية أم كلثوم أغنيتها «الثلاثية المقدسة» التى شدت بها فى ٢٥ نوفمبر ١٩٧٢ وتقول فيها: «رحاب الهدى يا منار الضياء/ سمعتك فى ساعة من صفاء/ تقول أنا البيت ظل الإله/ وركن الخليل أبى الأنبياء/ أنا البيت قبلتكم للصلاة/ أنا البيت كعبتكم للرجاء/ فضموا الصفوف/ وولوا الوجوه/ إلى مشرق النور عند الدعاء/ وسيروا إلى هدف واحد/ وقوموا إلى دعوة للبناء/ يزكى بها الله إيمانكم/ ويرفع هاماتكم للسماء/ طلع البدر علينا/ من ثنيات الوداع/ وجب الشكر علينا/ ما دعا لله داع/ أيها المبعوث فينا/ جئت بالأمر المطاع/ يا عطاء الروح من عند النبى/ وعبيرًا من ثنايا يثرب/ يا حديث الحرم الطهر الذى/ يطلع النور به فى اللهب/ قم وبشر بالمساواة التى/ ألفت بين قلوب العرب/ والإخاء الحق والحب الذى/ وحد الخطو لسير الموكب/ والجهاد المؤمن الحر الذى/ وصل الفتح به للمغرب/ أمة علمها حب السماء/ كيف تبنى ثم تعلو بالبناء/ فمضت ترفل فى وحدتها/ وتباهى فى طريق الكبرياء/ بيد توسع فى أرزاقها/ ويد تدفع كيد الأشقياء/ سادت الأيام لما آمنت/ أن بالإيمان يسمو الأقوياء/ فإذا استشهد منهم بطل/ كانت الجنة وعد الشهداء/ من مهبط الإسراء فى المسجد/ من حرم القدس الطهور الندى/ أسمع فى ركن الأسر مريمًا/ تهتف بالنجدة للسيد/ وأشهد الأعداء قد أحرقوا/ ركنًا مشت فيه خطى أحمد/ وأبصر الأحجاز محزونة/ تقول واقدساه يا معتدى/ لا والضحى والليل إذا ما سجى/ وكل سيار به نهتدى/ لن يطلع الفجر على ظالم/ مستغرق فى حقده الأسود/ سترجع الأرض إلى أهلها/ محفوفة بالمجد والسؤدد/ والمسجد الأقصى إلى ربه/ مزدهيًا بالركع السجد/ ستشرق الشمس على أمة/ لغير وجه الله لم تسجد». 

رعاية سرية للفقراء واغنية ضد العنصرية 

لم ينس عبدالعزيز كامل أن يسجل لأم كلثوم أنها كانت تتصل به تليفونيًا من آن إلى آخر، لتوصى على فقير أو محتاج أو أسرة جار عليها الدهر. 

كانت أم كلثوم تقول له: عرفت هذا كله، وعشت الحياة المصرية فى كل مستوياتها، أقوم فى الصباح فأجد هؤلاء يقصدوننى، فأقصد أصدقائى، ونتعاون معًا من أجل الخير، لا أستطيع أن أتركهم. 

ويوثق كامل لنا قصة من القصص غير المشهورة عن أم كلثوم، يقول: إن أنسى لا أنسى نزعتها الإنسانية العالية، ومثل ذلك أنها تأثرت ذات يوم بحديث لى عن موقف الإسلام من التفرقة العنصرية، فشاءت أن تحوله إلى أغنية تتغنى بها، ينظمها الشاعر صالح جودت، وقد شرع ينظمها فى ذلك الحين ومطلعها: «الواحد الرحمن/ من كون الأكوان/ ولون الألوان/ وأبدع الإنسان/ يا أخى فى الشرق والغرب سلامًا وتحية/ يا أخى من كل لون ولسان وهوية/ كل إنسان على الأرض أخى فى البشرية/ فأنا من أمة تنكر معنى العنصرية». 

الصلاة علي الست في مكرم عبيد 

يصل عبدالعزيز كامل إلى المشهد الأخير، يصف جنازة أم كلثوم كما لم يصفه أحد. 

لكنه قبل أن يصل إلى الجنازة يقف مع الست فى عمر مكرم، يقول: وأجد نفسى مع زملائى فى سرادق العزاء، ويأتى صديق يدعونى إلى صلاة الجنازة على أم كلثوم، كان النعش فى محراب مسجد السيد عمر مكرم، فى قماش من حرير أخضر وأبيض، خضرة الريف الذى أنبتها والقلب الذى تحمله، والجزاء الذى ندعو الله لها به، وبياض لامع كأنه ماء النيل القريب وقد انعكست عليه شمس الضحى، أو شمس الأصيل. 

تقدم عبدالعزيز كامل ليؤم صلاة الجنازة على أم كلثوم، وهو يدعو لها: اللهم أجزها عن أهلها وأمتها ودينها خير ما تجزى به عبادك، اللهم تقبلها فى رحمتك ورضوانك، اللهم إنها أحبتك وأحبت عبادك فاجعلها مع من تحبهم فى جوارك. 

الآن يأتينا وصف كامل للجنازة. 

يقول: سارت الجنازة خطوات، فإذا بموج بشرى يطبق علينا، فنصبح قطرات وسط بحر من البشر، واشتد الضغط من ورائنا وأوصانا الزملاء المشرفون بالميل إلى جانب الطريق، وتابعنا رؤية الجنازة من تليفزيون رئيس مجلس الشعب، وتركزت عيناى على النعش، رؤية تختلط فيها الحقيقة بالخيال، كنت أراه أمامى زورقًا أبيض بخطوط خضراء يسبح فى نهر من الزهر، وأراه أحيانًا كالطير السابح، يحرك رأسه يمنة ويسرة، والبشر من حوله موج تحركه رياح المحبة والوفاء، والأصوات فيه حفيف أشجار، كل ورقة فيها كلمة طيبة. 

ويخلص «كامل» إلى أن ما يراه: كان هذا أكبر حفل لأم كلثوم، الذين تجمعوا وراء نعشها أكبر ممن شهدوا أى حفل من حفلاتها، فى صمتها بليغة، هى اليوم لأول مرة تصمت، وهم الناطقون، هم الهاتفون لها بغير غناء إلا الوفاء، وهناك فى الشرق، وفى البساتين كان مثواها، دائمًا فى الشرق، من شرق الدلتا مولدها، وفى شرق النيل مثواها، وهى بين ذلك كوكب الشرق، وتذكرت مقامها بين الأطفال الصغار غير بعيد فى الهرم، والطفولة البريئة تودعها بالدمع الطاهر والحب. 

ويختم وزير الأوقاف كلامه عن أم كلثوم بقوله: بآيات من كتاب الله نودعك، فلقد كان أول ما عرفت فى دنياك، وآخر ما تلوت فيها، استقبل والدك نبأ ميلادك وهو فى بيت الله يرفع الصوت بالأذان، وكان وداعك من بيت الله وحولك القرآن والتكبير، كان ميلادك فى العشر الأواخر من رمضان شهر القرآن، ووفاتك فى العشر الأواخر من المحرم شهر السلام، ندعو الله لك بالمغفرة والرحمة والرضوان، فمن نحن؟ ولمن نحن؟ وإلى من نعود؟ وإنا لله وإنا إليه راجعون.