رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشاطر حسن صاحب نوبل الذى لا نعرفه

منذ ما يزيد على ثلاثين سنة ذهبت مدعوًا للمشاركة فى أول مؤتمر لأدباء الأقاليم فى مصر.. وكان منعقدًا فى أسوان.. ولم أكن قد زرتها من قبل.. كنت على أعتاب الصبا ولم أغادر قريتى إلا قليلًا.. وكل ما أعرفه عن تلك المدينة الجنوبية المدهشة هو السد العالى وجوابات حراجى القط ومعبد فيله وأبوسمبل.. وجزيرة النباتات أيضًا.. هذا فقط ما عرفناه من كتب المدارس.. ولم يذكر التليفزيون- وكان قد دخل إلى بيوتنا متأخرًا بقناتيه الأولى والثانية فقط- شيئًا يزيد عمّا قالته كتب الوزارة. وقتها ولسبب لا أعرفه قرر الوزير الأسبق الفنان فاروق حسنى أن تكون إقامة جميع ضيوف المؤتمر فى منتجع رائع.. لا فرق بين شاعر كبير أو ناقد صاحب مقام وشاب مجهول الاسم والعنوان مثلى.. وعرفت أن الوزير نفسه يقيم معنا فى نفس المكان.

سحرنى الموقع بكل تفاصيله.. تلك البيوت لم أكن أعرف أن اسمها شاليهات- ذات القباب المدورة.. فى وسط الجبل المزروع والمضاء ليلًا وسط الزروع وكأننا فى قلب جزيرة من الجنة.. صرت درويشًا لهذه المبانى التى لم أشاهد مثلها من قبل ولا حتى فى أفلام السينما.. وعرفت لما سألت الراحل عمر نجم.. أن هذه البيوت بناها مهندس إسكندرانى عبقرى يعتبره شاعرًا وفيلسوفًا وقديسًا اسمه حسن فتحى.

وأضاف برومانسية عذبة «ممكن تسميه الشاطر حسن».. وتركنى الراحل النبيل فى حيرة لا حدود لها.. كيف لا ندرس تاريخ هذا الرجل فى مدارسنا؟.. ولماذا لا يعرضون لنا حكايته وقصة فنون العمارة التى ابتدعها فى التليفزيون؟.. ولماذا لم نسمع من قبل عن هذا المكان؟.. ولم أجد أى إجابات لأسئلتى ونسيت الأمر كله وبقيت صورة تلك البيوت تطاردنى كلما زرت بلدًا أجنبيًا أو عربيًا ورأيت ناطحات سحاب.

بعدها بما يزيد على عشر سنوات أخرى كان أن دُعيت لزيارة فى محافظة الوادى الجديد.. وكان أن وقفت مسحورًا للمرة الثانية بمبانى قرية القصر وتاريخها.. شكل البيوت والشوارع التى يسلم بعضها البعض.. وجميعها مبنى بالطوب اللبن- هذه القرية هى التى تم تصوير مسلسل واحة الغروب فيها- وكان أن تحدثت مع الشاعر وأستاذ الفولكلور الزميل فارس خضر، ابن الوادى الجديد، فأخبرنى بأن هناك ما يفوق القصر جمالًا، وإن كان مجرد منزل.. وموجود فى الوادى الجديد أيضًا.. وكان أن ذهبنا بصحبة الزميل خالد قريش وعدد من الأصدقاء إلى ذلك الموقع- وبعد تحذير شديد اللهجة من مسئولى المحافظة خوفًا علينا من العقارب التى ملأت البيت.. وكان أن عرفت أن تلك التحفة المعمارية هذه هى بيت المهندس حسن فتحى.

مرة أخرى تطاردنى سيرة الرجل.. وكان أن عرفت أنه ابن الإسكندرية الذى ولد وفى يده ملعقة من ذهب.. ابن لأسرة غنية جدًا عام ١٩٠٠.. عشق الرسم وجاء ليدرس الهندسة فى المهندس خانة- جامعة القاهرة فيما بعد- واهتم بفكرة بسيطة كانت هى سر تفرده وتناقضه مع معظم نظريات الهندسة المعمارية المتعارف عليها فى العالم.. وهو نفسه السر الذى جذب أنظار العالم كله ومنحه العديد من الجوائز العالمية، وفى مقدمتها «نوبل البديل»، ومنحه قبل ذلك كل محبة العالم واحترامه لقب «مهندس الفقراء» أو صاحب «عمارة الفقراء».

حسن فتحى الذى بنى بيوته من المواد الخام الموجودة فى الطبيعة.. الطوب اللبن الذى يخاصم الأسمنت المسلح، القباب التى تسمح بدخول الهواء والشمس.. مصدات الصقيع والحرارة.. بيوت لا تحتاج لا إلى تكييف ولا دفايات.. منازل تحارب الحر والصقيع.. وتباهى الدنيا بجمالها.. جمال بيوت أجدادنا وتكلفتها البسيطة أيضًا.. وكان أن استدعته الحكومة ليبنى بيوت مدينة «غورنا»، أو تلك التى نطلق عليها اسم مدينة القرنة فى الأقصر البديعة.

مدينة القرنة حينما فكرت الحكومة فى بنائها كان الغرض نقل لصوص المقابر الذين يسرقون حضارة وآثار البلد وينبشون مومياوات أجدادنا إلى بيوت بعيدة وبسيطة التكلفة فى آن واحد.. وكان أن نفذ الرجل مشروعه البديع، الذى أصبح حديث العالم.. لكننا أهملناه لسنوات طويلة جدًا.. حتى جاءت حكومة مصطفى مدبولى مؤخرًا لتعيد الروح إلى القرية وتفتح المرحلة الأولى من تطويرها فى نفس هذا الوقت من العام الماضى.

حسن فتحى الذى كان يؤمن بأن عمارة مصر تقوم على ترويض غضب الطبيعة واحترام الدين وتجلياته، وجدت أخيرًا فى مصر التى تستعيد وجهها الحقيقى الآن من يستدعيه بعد رحيله بسنوات.. من يعيد له اعتباره ولفنه ونظرياته وإنجازه المعمارى الفذ اعتبارهم.. وها هى مصر ذاتها تعيد ترميم وإحياء تلك البقعة الساحرة التى فتنتنى قبل ثلاثين سنة فى أسوان وتعود لاستقبال زائريها من كل دول العالم.

بقى أن تنتبه وزارتا الثقافة والآثار ومحافظة الوادى الجديد إلى قصره المدهش فى الوادى الجديد وتعيده إلى سيرته الأولى بعد أن عانى من إهمال سنوات طوال وسكنته العقارب.. وهذا ما أعتقد أنه سيحدث قريبًا.

أما ما أتمناه.. فهو أن تمتد يد الوزير طارق شوقى إلى سيرة الرجل وفلسفته وحكايته، حكاية الشاطر حسن الذى أعطى عمره وحلمه وعلمه إلى مصر.. «ست الحسن والجمال».. ويتم تدريس ما تيسر من ذلك كله فى مناهج تعليمنا.

ربما يشجع ذلك المئات من أولادنا الموهوبين لتكرار إبداعه- والمؤكد أن لدينا المئات منهم- وليس أقل من أن نحتفى به.. فهو لا يقل أبدًا فى منجزه عن نجيب محفوظ وأحمد زويل.