رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بستان الاشتراكية.. والغمز فى «منسوب التدين»

مع مطلع الستينيات اكتشف جمال عبدالناصر- كما يذهب أحمد حمروش فى كتابه «مجتمع عبدالناصر»- أن واقع المجتمع لم يتغير فيه شىء، ولم يرتفع مستوى معيشة المواطن كثيرًا رغم الإجراءات التى اتخذت فى الستينيات، مثل قانون الإصلاح الزراعى، وتخفيض إيجار المساكن، ومصادرة أموال الأسرة العلوية المالكة، وتأميم القناة، وتمصير البنوك والشركات الأجنبية، فما زال الفلاح فى تخلفه وفقره والعامل فى معاناته، والطبقة الوسطى تطحنها رحى الحياة.

وبصورة سرية تامة بدأ عبدالناصر يخطط لقرارات يوليو الاشتراكية ١٩٦١، وبدأت هوجة التأميمات، فتم تأميم ١٤٩ شركة، وإشراك القطاع العام فى ٩١ شركة بحصة لا تقل عن ٥٠٪ من رأس المال، وتأميم مرفق النقل العام، وتعديل قانون الإصلاح الزراعى ليصبح الحد الأقصى للملكية ١٠٠ فدان، وسميت هذه القوانين، التى أحدثت صدمة كبيرة سعدت بها الأغلبية المستفيدة المستهلكة وسخطت عليها الأقلية المنتجة، بقوانين يوليو الاشتراكية، وفى العام التالى صدر الميثاق «١٩٦٢» وبدأت مصر تجربتها الاشتراكية.

ارتج المجتمع المصرى بعنف جراء التحول الجديد الذى أحدثه جمال عبدالناصر بإصدار القرارات الاشتراكية، وتستطيع أن تقف على حالة الذعر التى ركبت كل من لديه أى مقدرات من مراجعة ما حكاه نجيب محفوظ فى رواية «باقى من الزمن ساعة» عن هذه الفترة، فكل من كان يملك شيئًا خاف عليه، حتى ولو كان رصيدًا متواضعًا داخل البنوك، من أن تطوله يد الدولة، فأخذ الكثيرون يعودون إلى عاداتهم القديمة فى إخفاء أموالهم تحت البلاطة، وبدأ البعض يحولها إلى ذهب، وغير ذلك من سلع قادرة على تخزين القيمة، وانهارت بعض الأسر الثرية تحت معول التأميم، وانحدرت أوضاعها الاقتصادية نحو الأسفل.

فى المقابل، سعدت الأغلبية الكبيرة من العمال والموظفين بعد أن أصبحوا يحصلون على نسبة ٢٥٪ من أرباح الشركات، وبعد أن باتوا ممثلين بأعضاء فى مجالس الإدارات، لكن كما كانت قرارات الخمسينيات غير مجدية فى تحسين أوضاع الفقراء فى مصر بالصورة التى كان يحلم بها عبدالناصر، كانت حزمة القرارات الاشتراكية فى الستينيات غير نافعة هى الأخرى، فأصبح البعض يطلق على الاشتراكية التى سادت خلال هذه الفترة «اشتراكية الفقر»، خصوصًا بعد أن بدأ رأس المال الذى نجا من هوجة التأميم فى الهرب من البلاد، فتراجعت الحركة الإنتاجية، ولم تثبت مجالس الإدارات الجديدة التى تولت المشروعات المؤممة نجاحًا فى إدارتها أو تطويرها، بل على العكس بدأ القطاع العام يصبح عبئًا على الدولة.

وإذا نحينا البعدين الاجتماعى والاقتصادى جانبًا فسنجد أن البعد الأخطر فى التفاعل مع التحول الاشتراكى الذى أحدثه جمال عبدالناصر أوائل الستينيات هو البعد الدينى. فقد ثار جدل على مستوى الدائرة الصغيرة للحكم حول موقف الدين من الاشتراكية والتأميم، وبدأ الغمز واللمز حول حق الدولة فى الاستيلاء على أملاك الغير، والأخطر عملية الخلط ما بين الاشتراكية والشيوعية، والحديث عن أن دعاة الاشتراكية يؤمنون بأن الكون مادة، وبعضهم لا يؤمن بوجود إله، وقد تبنى هذا التوجه المحافظ والمتحفظ عند النظر إلى القرارات الاشتراكية واحد من كبار أعضاء مجلس قيادة الثورة وهو كمال الدين حسين. 

واستغلت جماعة الإخوان قرارات يوليو الاشتراكية كأداة لتشويه تجربة جمال عبدالناصر، وتجد فى هذا السياق المرشد الثالث للجماعة الأستاذ عمر التلمسانى يصف التأميم كعمليات سلب ونهب ممنهج لملكيات الغير مما لا يقره الإسلام، وفصّل فى كتابه «قال الناس ولم أقل فى عصر عبدالناصر»، الحديث عن أن الفساد الحكومى وعمليات السلب والاختلاس اقترنت بالتحول الاشتراكى لأنه تم بطريقة غير منتظمة، وزاد من تفاقم المشكلة، أن الدولة سارت على قاعدة إسناد وإدارة المال العام إلى أهل الثقة، دون أهل الخبرة، وكانت جرائم الاختلاس التى تقع على المال تختفى ولا يكشف عنها الستار لهدفين أساسيين، الهدف الأول مجاملة المختلس لأنه من أهل الثقة، والهدف الثانى عدم إعطاء الفرصة للقول إن نظام التأميم قد فشل أو إن القطاع العام قد فشل.

واجتهدت أطياف مختلفة من المنتمين إلى التيار الإسلامى فى الغمز واللمز فى منسوب تدين جمال عبدالناصر الذى يتبنى الاشتراكية ويصادق الدول الشيوعية. والقارئ للجزء الثانى من السيرة الذاتية للدكتور خليل حسن خليل «الوارثون» يشعر بأن صدى هذا الغمز واللمز وصل إلى الشارع، وأن الكوادر الاشتراكية كانت تجتهد فى تبيان أن الاشتراكية التى تتبناها مصر تعترف بالأديان وتؤمن بخالق الكون. 

وقد ظل صدى هذا الغمز واللمز فى ديانة عبدالناصر قائمًا حتى عصر الشيخ الشعراوى، الذى ذكر فى لقاء له مع الإعلامى طارق حبيب أنه سجد لله شكرًا عندما وقعت نكسة ١٩٦٧، لأننا كنا فى أحضان الشيوعية، ولو نصرنا ونحن فى أحضان الشيوعية لأصابتنا فتنة فى ديننا، لذلك شكر الله تعالى على الهزيمة!

وقد كتب «سامى شرف»، سكرتير الرئيس جمال عبدالناصر للمعلومات، عام ٢٠١٣، مدافعًا عن هذا الغمز فى حق الرئيس عبدالناصر، مؤكدًا أن «ناصر» هو من جعل مادة التربية الدينية مادة إجبارية يتوقف عليها النجاح أو الرسوب كباقى المواد لأول مرة فى تاريخ مصر بينما كانت اختيارية فى النظام الملكى.. كما تم تطوير الأزهر الشريف وتحويله إلى جامعة عصرية تدرس فيها العلوم الطبيعية المدنية بجانب العلوم الدينية فى عصره، وأنشأ مدينة البعوث الإسلامية التى كان وما زال يدرس فيها عشرات الآلاف من الطلاب المسلمين، وأنشأ منظمة المؤتمر الإسلامى، وفى عهد عبدالناصر أيضًا تمت ترجمة معانى القرآن الكريم إلى كل لغات العالم، وتم تسجيل القرآن كاملًا على أسطوانات وشرائط للمرة الأولى فى التاريخ، وتم توزيع القرآن مسجلًا فى كل أنحاء العالم.

ما أسرع ما يشتبك الدين مع أى تحول يحدث فى هذا المجتمع، سواء كان اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو سياسيًا، لكن هذا الاشتباك يتم فضه بسرعة على مستوى القاعدة العريضة من الجمهور، إذا كان التحول يصب فى مصلحتها، هنالك تسيطر الرؤية البراجماتية المصالحية على ما عداها.