رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قضية التجديد فى الأدب

صادفتنى من الروايات المطروحة فى معرض الكتاب رواية صدرت هذا العام لكاتبة شابة بعنوان «٢٥ ليلة فى الجحيم»، وكان مؤلف آخر قد نشر قبل ذلك رواية «ألف ليلة فى الجحيم»، وأظن أن ألف ليلة خاصة إن كانت فى الجحيم كانت كافيه للقارئ. 

القضية هنا أن الكثيرين من الأدباء الشباب يتخيلون أن التجديد فى الأدب يكمن فى العنوان المثير، أو الموضوع الغريب، أو طرح قضايا لا علاقة لها لا بالحياة، ولا بالواقع، ومن ثم لا علاقة لها بالأدب والفن، حتى لو صارت الأكثر مبيعًا. ولا أظن أن أحدًا يختلف على قيمة الكاتب الأرجنتينى العظيم خوليو كورتاثر، الذى تحدث عنه بورخيس قائلًا: «إننى أشعر بالفخر لأننى أول من نشر لكورتاثر». 

يعد كورتاثر نموذجًا للتجديد الفنى العبقرى فى القرن العشرين، وعندما تقرأ قصصه فإنها تستوقفك وتجبرك على التأمل طويلًا، والنهوض لتذرع المكان الذى تقرأ فيه وقد استولى عليك الإعجاب والدهشة. كان أول ما نشره كورتاثر مجلدًا شعريًا بعنوان «حضور» عام ١٩٣٨، ثم تأهب ثمانية أعوام كاملة لكى ينشر أول قصة بعنوان «المنزل المحتل». ويلفت النظر هنا ذلك الصمت الطويل بين المجلد الشعرى وأول قصة، ويشير هذا إلى أن الأدب ليس تعجلًا للنشر، أو ما يسمونه الآن «التواجد» أو الظهور، فقد كتبت كل الأعمال العظيمة فى سنوات طويلة كما حدث مع «دون كيخوت» التى ظل سرفانتس ينقحها على مدى عشرة أعوام، وكما حدث مع «المعلم ومرجريتا» التى كتبها بلجاكوف فى اثنى عشر عامًا، ووضع النقطة الأخيرة فيها قبل وفاته بأيام، وأيضًا مع رواية «الأنساب المختارة» التى كتبها جوته خلال ثمانية عشر عامًا. ولا أقصد بذلك أنه لابد من انقضاء فترة زمنية طويلة ما بين عمل وآخر، لكن عدم التعجل، هذا بعد أن دخلنا إلى مرحلة «رواية لكل مواطن». فى الوقت ذاته فإن أعمال كورتاثر تلفت النظر بشدة إلى جوهر التجديد الأدبى، الذى لا يرتبط لا من بعيد ولا من قريب بالعناوين المثيرة، والغرائبيات، والحيل التقنية، والتوليف، وباختصار فليس للتجديد عنده علاقة بالأساليب السردية المستخدمة لذاتها، لكن التجديد عند الكاتب الكبير يرد أساسًا من المضمون، وتحديدًا من فكرة القصة الرئيسية. وهناك مجموعة قصصية شهيرة لكورتاثر بعنوان «نهاية اللعبة» تضم قصة مذهلة تصلح نموذجًا لتوضيح ما أقصده وهى قصة «الوردة الصفراء»، وفيها يلتقى الراوى بشخص آخر فى حانة ويسرد عليه كيف أنه «أى الراوى» قد صادف شابًا صغيرًا يشبه ذلك الشخص شبهًا شديدًا، وأنه تتبع ذلك الشاب إلى أن تعرف على أسرته، وخلال ذلك نكتشف شيئًا فشيئًا أن حياة ذلك الشاب الصغير نسخة من مطلع شباب الراوى مع بعض التغييرات الطفيفة. ويقودنا كورتاثر إلى فكرته: أن البشر جميعًا يعيدون إنتاج أنفسهم وصورهم، ومن ثم فإنهم جميعًا خالدون بشكل أو بآخر. ليس فى القصة شىء جديد من ناحية الشكل، لكن التجديد فيها يرد من الفكرة الجديدة. معظم قصص كورتاثر تقوم على فكرة جديدة، وليس على حيل شكلية جديدة، وليس كورتاثر وحده، بل كل الأدباء الكبار. 

يأتى التجديد فى الأدب بقدر ما يكون استجابة إبداعية لأفكار وضرورات اجتماعية فى واقع محدد تاريخيًا ومكانيًا، بقدر ما يعبر أيضًا عن الظواهر الاجتماعية المستجدة. باختصار الإبداع عملية أكبر من العناوين المثيرة، ومن الغرائبيات، والعجائب، ومازلت أذكر من قصة لأنطون تشيخوف قوله إنه يندهش من الذين يصيبهم الرعب من عفاريت المقابر، بينما تثير الحياة من الرعب ما هو أكثر بكثير، الحياة أيضًا عامرة بقضايا قادرة على أن تلهم الأدب طرق التجديد فقط إذا تأملناها.