إعادة اختراع رجال الأعمال
تقول الحقائق إن الاستثمار الخاص لعب دورًا كبيرًا فى تطور هذا البلد خلال المئتى عام الأخيرة، وتقول أيضًا إن نسبة كبيرة من إجمالى القوى البشرية العاملة فى مصر تعمل فى مؤسسات القطاع الخاص، وتقول الوثائق السياسية وخطابات رئيس الجمهورية والمسئولين التنفيذيين إن القطاع الخاص مرحب به لأقصى درجة، وإن دوره مطلوب ومرغوب، ومع ذلك توجد مشكلة.. ولكل مشكلة جذور.. لقد أسس محمد على الدولة الحديثة فى مصر منذ ١٨٠٥ وبدأ بسياسة اقتصادية احتكرت فيها الدولة كل الأنشطة فيما عرف بـ«رأسمالية الدولة».. ولسبب ما كانت هذه الصيغة هى الصيغة الأنجح فى مصر عبر تجارب مختلفة، ظهر ما يمكن تسميته بالقطاع الخاص المصرى فى النصف الثانى من حكم محمد على، حين شرع فى توزيع مساحات واسعة من الأراضى القابلة للاستصلاح على رجاله ومعاونيه، وكان معظمها من الأراضى البعيدة التى عرفت بـ«الإبعاديات» و«الجفالك» وللحق فقد بذل ملاك هذه الأراضى جهدًا كبيرًا فى استصلاحها، وإدخال أصناف جديدة من الفواكه والثمار إليها، وزيادة مساحاتها، واستقدام الخبراء لزراعتها، وكانت هذه هى البذور الأولى لتكوين الأسر الإقطاعية فى مصر والتى عبر أصحابها عن أنفسهم فيما بعد بأنهم حزب أصحاب المصالح، وكانت الخطوة الثانية على يد خديوى مصر إسماعيل الذى فتح الباب واسعًا أمام الاستثمارات الأجنبية الصناعية، فدخلت مصر صناعات لم تعرفها من قبل على يد مستثمرين أوروبيين وكانت تلك إضافة كبيرة أثرت الاقتصاد المصرى وأضافت إلى تطور المجتمع المصرى، ثم كانت الموجة الثالثة بعد ثورة ١٩١٩، حيث ظهرت موجة من الرأسماليين المصريين كان رمزها هو طلعت حرب باشا، وكان من رموزها الناجحة محمد فرغلى، وأحمد عبود، وأبورجيلة، وياسين، وآخرون من رموز الصناعة الذين قدموا منتجات ارتبطت بحياة المصريين عبر عقود مختلفة، ثم قامت ثورة يوليو، وفعلت مثلما كان يفعل نصف العالم وقتها، وصار لديها قلق من نفوذ رأس المال الخاص نتيجة تجارب سيئة، فكان التأميم والتمصير وإسناد إدارة الاقتصاد للقطاع العام، الذى كان وقتها فى حال غير الحال، وكانت تقف وراءه رموز وطنية ذات كفاءة مثل المهندس عزيز صدقى، وصدقى سليمان، وكفاءات أخرى كبيرة، ثم كانت مرحلة الانفتاح الاقتصادى، وقد سادها كثير من مظاهر العشوائية، والانفلات، والاستيراد الاستهلاكى، والتهريب، ولم يكن هناك تخطيط مسبق لهذا القرار الخطير، مثل دعوة رموز الصناعة المؤممة لمشاركة القطاع الخاص، أو التخطيط للمسارات المطلوب تواجد رأس المال فيها، مع انفتاح كامل على التوكيلات الأجنبية، والبضائع الترفيهية، بحيث تحولت مصر إلى سوق الآخرين بدلًا من أن تتحول لمركز تصنيع يغزو أسواق الآخرين، رغم أن هذه كانت هى الغاية الأساسية من الانفتاح.. ثم كانت الموجة الأخيرة من تأسيس القطاع الخاص المصرى منذ التسعينيات والتى عبّرت عن نفسها منذ عام ٢٠٠٠ بعدد من المظاهر، منها انعدام التخصص، ودخول مجموعة من كبار رجال الأعمال فى أنشطة احتكارية واضحة، وتصاعد النفوذ السياسى لرجال الأعمال، وتفصيل القوانين لصالح البعض، وتمكين البعض من شركات القطاع العام الرابحة بثمن بخس، ثم إعادة بيعها بالمليارات بعد شهور قليلة لشركات أجنبية، وتصاعد النفوذ الإعلامى لرجال الأعمال لأقصى درجة، وظهور عدد من الدعاة الملاكى لرجال الأعمال يفسرون لهم الدين على هواهم ووفق مصالحهم.. وبشكل عام بدا وكأن البلد رهينة لمجموعة من المنتفعين بخيراته، وأطلق عليهم البعض «شلة المنتفعين بمصر»، وبدا أن هناك نوعًا من الفساد المقنن تحميه القوانين، على حد تعبير الأستاذ هيكل عقب رحيل النظام الأسبق، وبدا أن هناك تداخل مصالح كبيرًا بين بعض رموز السلطة وأقاربهم والمحيطين بهم يصب فى مصالح خاصة بعيدًا عن مصلحة الاقتصاد الوطنى.. كان هذا هو الوضع الذى ورثه الرئيس السيسى وسعى لإصلاحه بما يفيد القطاع الخاص الوطنى، ويقضى على الاحتكار لمصلحة القاعدة العريضة من رجال الأعمال، كان الوضع الاحتكارى تنتج عنه أرباح غير منطقية لا يمكن قبولها، وكان الوضع الجديد تنتج عنه أرباح مقبولة ومتعارف عليها فى كل بلاد العالم لكن هذا لم يعجب بعض «المدللين» لسبب أو لآخر.. الآن تشهد كل المجالات معدلات تشغيل عالية للقطاع الخاص، فالمدن الجديدة يبنيها مقاولون من القطاع الخاص، وكذلك مشروعات النقل، وتبطين الترع، والرى الحديث، وقس على ذلك فى كل المجالات، والمعنى أن عدد المستفيدين أكبر، والأرباح يتم توزيعها بطريقة أكثر عدالة، والمعنى أن عائدات النمو تصب فى مصلحة شريحة أوسع من المصريين، وهذه خطوة مهمة فى إعادة تعريف القطاع الخاص المصرى، وإعادة صياغة وعيه بنفسه، وبدوره فى المجتمع وستتلوها خطوات أخرى قادمة وضرورية أيضًا.