رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصعيد لم يعد منسيًا

تقول الأخبار إن الأسبوع المقبل كله هو أسبوع الصعيد.. الحكومة ستنتقل إلى هناك لتشارك فى افتتاح عشرات من مشاريع التنمية التى تم الانتهاء منها.. العصا السحرية القادرة تغير وجه الصعيد خلال خمس سنوات فقط وما زال هناك المزيد فى الطريق.. أكثر ما يثير الحماس للجمهورية الجديدة فى مصر هى تلك الشجاعة البالغة فى اتخاذ القرار.. والسرعة فى الإنجاز.. والمهارة فى التنفيذ.. إن آلاف المشروعات التى تم تأسيسها فى الصعيد هى رد اعتبار متأخر.. وإزالة لظلم تاريخى لحق بجنوب مصر عبر عصور مختلفة.. فالروايات التى كتبها كتابنا فى النصف الأول من القرن الماضى تظهر كيف كان الصعيد منفى للموظفين.. وكيف كان نقل موظف لمحافظة مثل قنا أو سوهاج عقابًا ما بعده عقاب.. وكيف كانت الحياة هناك لا تحتمل.. كان الصعيد عبر عصور مصر المختلفة منسيًا.. محرومًا.. متروكًا للفقر والجهل والمرض.. وفى الستينيات ظهر بصيص أمل فى إنصاف الصعيد، لكنه سرعان ما توارى مع هزيمة يونيو ونهاية المرحلة بأكملها.. ليعود الصعيد إلى هامش النسيان.. والحرمان من التنمية وبخل الدولة على أهله بما يستحقونه من نصيب فى الفرص وفى الثروة القومية.. وكان من الطبيعى أن يعبر أهل الصعيد عن إحساسهم بالظلم والحرمان بطرق مختلفة.. كان أشهرها إعلاميًا ظاهرة العصابات الإجرامية المسلحة والتى كان زعماؤها يحمل كل منهم لقب «خط الصعيد» وهو لقب أُطلق على أكثر من خمس أو ست شخصيات شهيرة فى الصعيد فى عقود وعصور متفاوتة.. حيث كان الخروج على القانون يمتزج بعنف مبالغ فيه وجرأة على التحدى مع مسحة تمرد ومساندة من الأهالى الذين يرون أن الحكومات المختلفة لم تعطهم ما يجعل لولائهم لها معنى ما.. وكانت الظاهرة الثانية هى استغلال الإرهاب لمظالم أهل الصعيد ولحرمانهم من التنمية ليتخذ من مدن وقرى الصعيد منطلقًا له.. ولا يعرف الكثيرون أن الإرهاب انطلق فى أواخر السبعينيات من محافظات الصعيد المختلفة، خاصة أسيوط وقنا والمنيا.. حيث تحول الطلاب المنتمون للإخوان فى جامعات الصعيد إلى إرهابيين يحملون السلاح طوال عقدى الثمانينيات والتسعينيات حيث شهد الصعيد مصادمات وأحداثًا كبرى وإطلاقًا للنار على القطارات والأتوبيسات التى تُقل السياح، ورغم أن الإرهاب هو خلل فى العقل والشخصية من الأساس، إلا أن عددًا من كبار الباحثين الغربيين تم إقناعهم بأن ظهور الإرهاب فى الصعيد هو صرخة احتجاج ضد حرمانه من التنمية، وحرمان أهله من فرص العمل، والوظائف، والمشاركة فى الثروة الوطنية.. ورغم أن هذا ليس هو التفسير الوحيد للإرهاب، إلا أنه تفسير لم يكن يخلو من الوجاهة.. وكان من انعكاسات حرمان الصعيد من التنمية أيضًا الهجرة المستمرة من الصعيد للقاهرة والإسكندرية.. حيث تم ترييف المدن، والضغط على مرافقها.. وظهور العشوائيات على أطرافها.. فالذين لم يجدوا أى فرص للعمل أو العلاج أو الحياة فى الصعيد.. لم يجدوا مهربًا من الفقر سوى النزوح للقاهرة وللمدن الكبرى.. ورغم مطالبة العشرات من المفكرين والخبراء بتنمية الصعيد بشكل عاجل.. إلا أن الدولة فى تلك العقود كانت تغط فى سبات عميق، أو تكتفى بالحديث دون الفعل.. أو تشرع بالفعل فى بعض المشروعات دون كفاءة لازمة للإشراف والمتابعة، فتفشل هذه المشروعات ولا تحقق أهدافها.. وقد استمر هذا الظلم التاريخى حتى بدأت الجمهورية الجديدة فى مصر عام ٢٠١٤ وبعد فترة من إعداد الرؤية ومراجعة التفاصيل تم إطلاق مشروع عملاق لتنمية الصعيد منذ ٢٠١٧ بشراكة مع البنك الدولى، وتم تأسيس هيئة مستقلة لتنمية الصعيد، ودخلت وزارات مختلفة بكامل طاقتها لإصلاح ما أفسده الدهر فى هذه البقعة الغالية والمحرومة والمفتقدة للعدل والإنصاف فى العهود السياسية المختلفة.. وبحسب البيانات الأولية فقد تم العمل على محاور مختلفة منها تأسيس عشر مناطق صناعية تم الانتهاء من أربع منها بالفعل، ومنها تأسيس عشرة محاور كبرى لربط شرق النيل بغربه، حيث يعيش السكان فى الشرق، بينما الغرب هو الصحراء والامتداد العمرانى الذى كان معزولًا عن الناس لدرجة أنه خلال ٢٢٥ عامًا تقريبًا، لم يتم بناء سوى أربعة محاور تربط ضفتى النيل فى الصعيد، لكن مصر الجديدة بنت عشرة محاور فى أربع سنوات فقط، وهو شىء يستحق التحية ويستثير الحماس فى قلب أى مخلص لهذا البلد وأى مؤمن بالعدالة فى التنمية وبمشروع النهضة المصرى وبحقوق ملايين المصريين فى التنمية والعمل والتعليم والصحة، وهو ما توفره مشروعات تنمية الصعيد التى اعتذرت عن أخطاء مئات الأعوام فى أربعة أعوام وحاولت تضميد جراح الماضى بالفعل لا بالكلام.. وما أحوجنا إلى الفعل بعد عقود لم نحصد فيها سوى الكلام الذى كان يتكرر حتى فقد معناه.. وهل نحن فى عصر الفعل الذى يفاجئنا بعد الانتهاء منه لنراه حقيقة واضحة وكان هذا الفعل الصامت والملتزم اعتذارًا لملايين المصريين عن عقود الكلام.. وهو فعل لا نملك إلا أن ننحنى له احترامًا وأن نسأل الله أن يحقق كل أهدافه وأكثر بإذن الله.