نص كلمة شيخ الأزهر في المسابقة العالمية الثامنة والعشرون للقرآن الكريم
قال فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، إن رحمة الله تعالى بالناس ألا يعاقبهم حتى يرسل إليهم رسولا يرشدهم إلى الهداية ويحذرهم طرق الغواية، مؤكدا أنه لم تخل أمه في أي عصر من رسالة ورسولا .
وإليكم نص الكلمة التي ألقاها نيابة عنه الدكتور نظير عياد، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، في افتتاح المسابقة العالمية الثامنة والعشرون للقرآن الكريم.
الحضورُ الكرامُ... لقد اقتضتْ رحمةُ اللهِ تعالى بالناسِ ألَّا يعاقِبَهُم حتَّى يُرسلَ إليهم رسولًا يُرشِدُهم إلى طريقِ الهدايةِ ويُحذِّرُهم طرُقَ الغواية " وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا" (سورة الإسراء: 15)؛ ولذا لَمْ تخل أمةٌ في أيِّ عصرٍ مِن رسالةٍ ورسولٍ قال تعالى: " إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ" (سورة فاطر: 24)، ولمَّا كانَ بعضُ الناسِ يَجحدُون ويكفُرُون بالرسلِ -عليهِمُ السلامُ- أيَّدَ اللهُ الرسلَ بالمعجزاتِ الباهراتِ التِّي تدُلُّ على صدقِ نبوَّتِهِم ورسالتِهم، وكانتْ معجزةُ كلِّ نبيٍّ مِن جنسِ ما اشتَهرَ بهِ قومُه، فقد اشتَهرَ قومُ موسى عليه السلام بالسِّحْرِ، فكانت معجزةُ مُوسى عليه السلام العَصا التي تلقَفُ ما صَنَعُوا، كما اشتَهرَ قومُ عيسى عليه السلام بالطبِّ فكانتْ مُعجزةُ عيسى عليه السلام إبراءَ الأكمهِ والأبرصِ وإحياءِ الموتى وغير ذلك؛ آياتٌ صادقاتٌ على نبوَّةِ الأنبياءِ، وإرغامًا للكافرينَ المعاندينَ، عسى أن يؤمنوا عند رؤية هذه المعجزاتِ الظاهراتِ.
وتابع : وكانَ كلُّ رسولٍ يؤيَّدُ بمُعجزةٍ حسيَّةٍ تناسِبُ خُصوصيةَ رسالتِهِ ومحدُودِيَّتَها زمانًا ومكانًا وقومًا، فتُقِيمُ الحُجَّةَ وتَشْهدُ بصدقِ الرَّسولِ، فِإذَا مَا ضَعُفَ تأثِيرُ تِلْكَ المُعجِزَةِ وانقْضَى زَمَنُ تِلْكَ الرِّسَالَةِ أرْسَلَ اللهُ رسولًا جديدًا وأيَّدَهُ بمُعجزةٍ جَدِيدَةٍ.
حتَّى إِذا جَاءتْ رسالةُ سيِّدِ المُرْسَلينَ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وخاتمِ النبيينَ كانتْ رسالةً عامةً وخاتمةً.
وأضاف : فهي عامةٌ: لأنَّها إلى الناسِ أجمعين عرَبِهم وعَجَمِهم قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" (سورة سبأ: 28)، وقالَ صلى الله عليه وسلم: "وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً" متفق عليه، وهي خاتمةٌ: لأنَّها الرسالةَ الباقيةَ إلى قيامِ الساعةِ قال جل جلاله: " مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا" (سورة الأحزاب: 40).
لقد كانَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم معجزاتٌ حسيَّةٌ عديدةٌ كغيرِهِ مِنْ إخوانِهِ الأنبياءِ صلواتُ الله وسلامُهُ عليهِمْ ومعَ ذلكَ كانَ لابُدَّ لهذهِ الرسالةِ مِنْ معجزةٍ تُلائِمُ طَبيعتَهُم، فتَتَعدَّدُ وجوهُ إعجازِها لتقيمَ الحُجَّةَ علَى الخلْقِ كافَّةً وتستَمِرَّ وتَتَجَدَّدَ علَى مرَّ الأيامِ لِتظلَّ شاهدةً علَى الأجيالِ المتلاحقةِ بصدقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وربَّانيَّةِ رسالتِهِ.
ولمْ تكُنْ المعجزةُ الكُبرى الدائمةُ للمصطفى صلى الله عليه وسلم معجزةً حسيةً كمعجزاتِ غيرِهِ مِنَ الأنبياءِ مِنْ قبْلِهِ؛ لأنَّ المعجزةَ الماديَّةَ لا تُؤدِّي هذا الدَّوْرَ ولَا تَصلُحُ لهذهِ المُهِمَّةُ، وإنَّمَا كانتْ مُعجزَتُهُ معنويَّةً خالدةً ألَا وهِيَ القرآنُ الكريمُ كلامُ ربِّ العالمينَ قالَ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنَ الأنبياءِ مِن نبيٍّ، إلَّا وقدْ أُعطَى مِنَ الآياتِ مَا مِثلُه آمنَ عليه البشرُ، وإنَّمَا كَانَ الذِّي أُوتيتُهُ وَحْيًا أوحَاهُ اللهُ إليَّ، فأرجُو أنْ أَكُونَ أكثرَهُمْ تَابعًا يَوْمَ القيامَةِ"
متفق عليه.
وتابع قائلا :الحضورُ الكريم يُعدُّ القرآنُ الكريمُ أجلَّ وأعظمَ معجزةٍ أجرَاها اللهُ تعالَى على يدِ نبيٍّ مِن الأنبياءِ، وهيَ معجزةٌ متفرِّدةٌ فِي بابِهَا لا يَرقَى إِليهَا غيرُها مِنْ معجزاتِ أنبياءِ الله والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وقد اختصَّ القرآنُ الكريمُ وتفرَّدَ بأمورٍ عديدةٍ دونَ غيرِهِ مِنَ المُعجزاتِ، منها:
أولًا: كانتْ مُعجزاتُ الأنبياءِ والمرسلينَ جميعًا معجزاتٍ حسيَّةً، لا توافقُ إلَّا مَنْ لَمْ تؤهلْهُمْ استعدَادَاتُهم الفِكْرِيَّةُ والعقليةُ لغيرِ ذَلِكَ مِنَ المُعْجِزَاتِ، أما معجزةُ القرآنِ الكريمِ فهي معجزةٌ عقليةٌ، جاءتْ موافقةً لطوْرِ الكمالِ البشريِّ ونضوجِ الإدراكِ العقليِّ والعلميِّ الذي وافَقَ عصرَ النبُوَّةِ وَمَا تَلَاهُ فكَانَ كَمَا حَكَى القُرْآنُ: آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدورِ الذينَ أُوتُوا العِلمَ في قوله تعالى: "بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ" (العنكبوت:49).
ثانيًا: معجزةُ القرآنِ الكريمِ خالدةٌ خلودَ الدهرِ، باقيةٌ بقاءَ الناسِ حتَّى يرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، بخلافِ المعجزاتِ الحسيةِ الوقتيةِ التِّي تنتَهِي وتنقضِي بانتهاءِ وقتِها وزمَنِها.
ثالثًا: إنَّ دَلالةَ القُرآنِ علَى نبوةِ محمدٍ صَلَى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليستْ كدلالةِ غيرِهِ مِنَ المعجزاتِ؛ لأنَّ غيرَهُ وَإِنْ كانتْ أفعالًا لَا تظهرُ إِلَّا علَى أيدِي الأنبياءِ.. إلّا أنَّها مَقطوعةَ الصلةِ بوظيفةِ النبوَّةِ وأهدافِ الوحيِ ومعنى الشريعةِ، أمَّا القرآنُ فدلالتُهُ على صدقِ النبوةِ وحقيقةِ الدِّينِ كدلالةِ الإبراءِ على الطبِّ، والقرآنُ يحملُ إعجازَهُ فِي ذاتِهِ ليبقَى شاهدًا ودليلًا علَى صِدْقِ الدَّعْوَى والرسالةِ معًا، يقولُ العلامةُ ابن خلدون: (والقرآنُ نفسُهُ الوحيُ المُدّعي، وهوَ الخارِقُ المعجِزُ، فشاهدُهُ فِي عينِهِ، ولا يفتقرُ إلَى دليلٍ مُغايِرٍ له معَ الوَحْيِ، فهو واضحُ الدلالةِ لاتحادِ الدليلِ والمدلولِ فيه).
ومِن ثَمَّ كان القرآنُ الكريمُ امتدادًا لرسولِ اللهِ في الناسِ، وحُجَّةً علَى كلِّ مَن بلغتْهُ آیاتُ هذَا القرآنُ ووعَى ما جاءَ فيهِ من دعوةٍ إلى الله، فهوَ رسولٌ في الناسِ إلى أنْ يرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها " وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ" (الأنعام: 19).
رابعًا: تعهَّدَ اللهُ تعالى بحفظِ القرآنِ الكريمِ وصيانتِهِ مِنَ التحريفِ والتغييرِ والتبديلِ ليبقَى شاهدًا علَى صدْقِ دعوتِهِ، وليظلَّ قائِمًا بها في الناسِ؛ لأنَّها خاتمةُ الرسالاتِ السماوية، ولأنَّها آخرُ كلمةٍ مِنَ اللهِ تعالى إِلى الناسِ "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر:9).
خامسًا: تضمَّنَ القرآنُ الكريمُ جميعَ مَا جاءتْ بهِ الرسلُ والكتبُ مِنْ عقائدَ وشرائعَ ووصايا وأخلاقٍ، كما جاء مهيْمنًا كما قال ربنا عز وجل: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ" (المائدة: 48)، "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (آل عمران:81).
سادسًا: لا تتصادُمُ حقائقُ القرآنِ معَ عقلٍ صحيحٍ ولَا علْمٍ ثابتٍ بيقينٍ، لأنهُ الحقُّ الذِي لَا يأتيهِ الباطلُ، ولأنهُ تنزيلٌ مِنْ حكيمٍ حميدٍ "لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت:42)، ولذلكَ وجبتْ له الهيمنةُ على غيرِهِ.
سابعًا: القرآنُ الكريمُ ميسَّرُ الحفظِ والذِّكْر، سريعُ التأثيرِ والهدايةِ: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" (القمر:17)، وجاء في الصحيحين عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأُ في المغربِ بالطورِ فلمَّا بلغَ هذه الآية: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ" الآية (الطور:۳۰) كادَ قلبِي يطيرُ إلَى الإسلامِ».
وسمع آخر قوله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى" (النحل:90)، فقالَ واللهِ إنَّ ربَّ محمدٍ ليأمرَ بمكارِمِ الأخْلاقِ فَآمَنَ وَدَعَا قومَهُ إلَى الإيمانِ".
الحضورُ الكرامُ... إن الحديثَ عَن القرآنِ الكريمِ ومَا يتصلُ بهِ هوَ مِنَ الأهميةِ بمكانٍ خصوصًا في هَذا العصرِ وتعددِ مشكلاتِهِ، وتنوعِ قضاياهُ الأمرَ الذي يحتمُ علينَا جميعًا بذْلَ المزيدِ مِنَ الأدوارِ فِي سبيلِ المحافظةِ على القرآنِ الكريمِ والعنايةِ بهِ.
يدلُّ علَى ذلكَ واقعُنا المُعاصِرُ الذي يُؤكِّدُ علَى ضرورةِ الأخذِ بتعاليمِهِ والالتزامِ بِهِ ولَا يتحققُ ذلكَ إلَّا بحفظِهِ فِي الصدورِ بجانبِ تدوينهِ فِي السطورِ والتاريخُ خيرُ شاهدٍ علَى ذلك:
فقد كانَ الناسُ قبلَ القرآنِ في عقائدِهم وأعمالِهم على طرَفين متناقضين: إما الإفراطِ وإما التفريطِ؛ وكِلَا الفريقينِ بعيدٌ عن جادةِ الاعتدالِ، فبينما كنتَ تَرى فَريقاً عكَفَ على الماديَّةِ البحْتَةِ، وشُغِفَ بِها حتَّى جرَتْ مِنْهُ مجرى الدمِ في العروقِ، وحرَصَ على تنميةِ عوامِلِها، وتوطيدِ وسائلِها، وحرَمَ نفسهُ تذوُّقَ اللذَّةِ الرُّوحِيةِ، إذا بكَ ترى فريقاً آخرَ قد نزعَ إلى الطرَف المقابلِ، ونسِي حظَّهُ المقدَّرِ لهُ في المادةِ بمُقتضى خلقِهِ وتكوينهِ، فتحكمتْ فيه تقاليدُ الرُّوحِ المحضةِ، وأعرضَ عن الدنيا وما فيها، وحرَم نفسهُ من متاعِها ومباهِجِها هذان هما الفريقان المتقابلان.
إن اقتسامَ هاتينِ الفكرتينِ للعالَمِ على هذا النحوِ، أو طُغيانَ إحداهُما على الأخرى، مِنْ شأنهِ أنْ يَحُولَ بينَ الناسِ وبينَ القيامِ بواجبِهِم الَّذِي مِنْ أجلِهِ خُلِقُوا، وجعلَهُمُ اللهُ خلفاءَه فِي أرضهِ: ذلك الواجبُ هو عِمارةُ الكونِ والانتفاعُ بِمَا خَلَقَ اللهُ فيهِ من شيء، والسموُّ بالعقلِ الإنسانيِّ علَى وجهٍ يَسعدُ بهِ الناسُ في معاشِهِم ومعادِهِم؛ ذلكَ الواجبُ هو الذِي تَضمنتْهُ الآيةُ الكريمةُ في بيانِ حكمةِ هذا الخلقِ، "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ " ( سورة البقرة 29-30)
جاءَ الإسلامُ وهاتان الفِكرتان تقتسمان العالمَ وتسيطران عليه، فحدَّدَ غايةَ الإنسانِ في الحياةِ وأرشدَهُ إلى مقوِّمَاتِها الصحيحةِ، وأهابَ به إلى الفكرتين معًا، وحثَّهُ على قصدِ الجَادَّةِ والاعتدالِ، وطلبَ إليهِ أنْ يأخذَ فِي كلِّ ناحيةٍ بقسطٍ مُلائِمٍ حتَّى تتحقَّقَ لهُ السعادةَ على أكملِ وجوهِها.
أوْسعَ له في ضروبِ القولِ مستدلًّا على عُقْمِ الماديةِ البحتةِ بأنواعِ الاستدلال، وأخذَ يُصورُّها أمامَهُ بأبشعِ الصوَرِ، واتجهَ بهِ إلى كثيرٍ مِنَ مواطنِ الحياةِ، وحثَّهُ عَلَى استكمالِ حاجتِهِ مِنْها؛ وَنَعَى عَلى الرُّوحيةِ المحضةِ، وجعلَهَا مِنَ الأساليبِ التِّي تُنَافِرُ الغايةَ مِن خلقِهِ لِعمارةِ الكونِ وخلافتِهِ عَنْ ربِّ العالمينَ اقرأوا - إن شئتم - قوله تعالى في التنفيرِ مِنَ المادِّيةِ البحتةِ: "وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ " (الأنعام: 32).
واقرأوا قوله تعالى في الحثِّ على تركِ الرُّوحيَّةِ المحضةِ:"قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِىٓ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِۦ وَٱلطَّيِّبَٰتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ " (سورة الأعراف: 32)،
واقرأوا قوله تعالى في الحثِّ على الأخذِ بالنصيبين:
"وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْض " سورة القصص: 77)
وقوله: "فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" ( سورة الجمعة:10).
وقدْ جاءَ القرآنُ لهذا الغرضِ: ليبلُغَ العقلُ البشريُّ رشدَهُ، ولينتفعَ الناسُ بالصالحِ من المادةِ والمفيدِ من الرُّوحِ، كما اتخذَ هذا الاعتدالُ نهجًا لهُ في إصلاحِ العقائدِ وتهذيبِ الأخلاقِ وترسيخِ قواعدِ التنظيمِ الاجتماعيِّ، وصرَّحَ فِي كثيرٍ من آياتهِ بأنهُ يخرجُ الناسَ مِنَ الظلماتِ إلى النورِ، ويهديهمْ إلى الطريقِ الأقوم، وينذرُهمْ سوءَ العاقبةِ، ويبشرُّهمْ بالحياةِ الطيبةِ إذا هُمْ تمسَّكوا بمبادئهِ وعمِلوا بإرشاداتهِ، وحرِصُوا على تنفيذِ أحكامِهِ.
واقتضتْ حكمةُ العليمِ الخبيرِ أنْ يكونَ بعضُه مفصَّلاً وبعضُه مُجملاً يفصِّل ما لا تختلفُ فيهِ أغراضُ الإصلاحِ، ولا تتغيرُ فيه وجوههُ بتغيُّرِ الأزمانِ والأمْكنةِ، وذلكَ ما يرجعُ إلَى العَقائدِ والأخلاقِ ورسُومِ العِباداتِ، ويُجْمِلُ مَا تْخْتلِفُ أحكامُهُ بحسبِ ما تقتضيهِ أحوالُ الزمنِ وتطوراتُ الحياةِ واختلافُ الأَمكنةِ، تاركًا للعلماءِ تطبيقَ ذلكَ علَى الحوادثِ والواقعاتِ الجُزئيةِ التي يجودُ بِها الزَّمنُ. وذلكَ كلُّهُ عملاً علَى سعادةِ البشرِ، وإطلاقاً لسراحِ العقلِ، وحثًّا لأهلِ البصيرةِ علَى التمتُّعِ بلذَّاتِ النظرِ والتنافسِ في مجالِ الاجتهاد.
عالجَ القرآنُ بذلكَ العِللَ النفسيةَ والأمراضَ الخُلُقيةَ، وحلَّ المشكلاتِ الاجتماعيةَ، ورسم طريقَ الحياةِ الطيبةِ الصالحةِ فكان كما وصف نفسَه: "إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ " (سورة الإسراء: 9)، وقوله: "كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ "، (سورة هود: 1)، وقوله : "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ " ( سورة الإسراء: 82)، وقوله :"تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا"
(سورة الفرقان:1).
لكل الذي ذكرت: أقول حسنًا فعلت وزارة الأوقاف المصرية خيرًا عندما أعلنتْ عن مسابقةٍ عالميةٍ دوليةٍ لحفَظةِ القرآن الكريم وهو أمرٌ أراهُ ويراهُ غيري مِن الأهميةِ بمكانٍ لأنَّ البشريةَ في هذا العصرِ في أمسِّ الحاجةِ إِلَى وحيٍ إلهيٍ يرُدُّ إليها رشدَها ويُهيِّئُ لها أمرَها ويأخذُ بأيديَها إلَى الطريقِ المستقيمِ، ويخرجُ بِهَا مِنَ الفتنِ والشُّبُهَاتِ والشهواتِ فيعودُ بِهَا إلَى فطرتِهَا النقيَّةِ ولا يوجدُ سوى القرآنِ الكريمِ يُحققُ هذا وزيادة؛ لأنّهُ يمتازُ بخصائصٍ أكثرَ مِنْ أنْ تُعَدَّ وأعظمَ مِنْ أنْ تُحصَى مِنها:
الإيجازُ في اللفظِ والجزالةُ في المعنى، والنظمُ البديعُ والعجيبُ.
والهيمنةُ والرُّوحُ التي تستولَى على قارئهِ وسامعهِ، وخطابُهُ للعامَّةِ والخَاصَّةِ، واستجابتُهُ لقُوَى الإنسانِ وملكاتِه العقلية والإدراكية.
وقُصارى القول: إن البشريةَ في حاجةٍ إلى القرآنِ الكريمِ حفظًا وتلاوةً وتدبُّرًا وفَهمًا؛ لأنهُ مُخرِجٌ لَها مِنْ كلِّ فتَنٍ، ويكفي تأكيدًا على ذلكَ ما جاءَ فِي الترمذيّ عنْ عليٍّ بن أبِي طالبٍ رضِي اللهُ عنهُ قالَ: أمَا إِنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَى اللهُ عليهِ وسلمَ يقولُ: "ألَا إنَّهَا ستكُونُ فِتْنَةٌ، فقلتُ: مَا المَخْرَجُ مِنْهَا يَا رسولَ اللهِ؟ قالَ: كتابُ اللهِ، فيهِ نبأُ مَا كَانَ قبلَكُمْ، وخبرُ مَا بَعدكُمْ، وحُكْمُ مَا بينكُمْ، وَهُوَ الفَصْلُ ليسَ بالهزلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الهُدى فِي غَيْرِهِ أضلهُ اللهُ، وهوَ حَبْلُ اللهِ المتينِ، وهوَ الذِّكرُ الحكيمُ، وهُو الصراطُ المستقيمُ، هُوَ الذِي لَا تَزيغُ بِهِ الأهواءُ، ولَا تلتبِسُ بِهِ الألسنةُ، ولَا يشبَعُ مِنْهُ العلماءُ، ولا يخلَقُ علَى كثرةِ الردِّ، ولَا تنقضِي عجائِبُهُ، هُوَ الذي لمْ تنتهِ الجِنُّ إذا سمعتْهُ حتَّى قالوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن: 1-2]، منَ قالَ بِهِ صدَق، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِر، ومَنْ حَكَمَ به عدَل، ومَنْ دعَا إليهِ هُديَ إلَى صراطٍ مُستقيمٍ".
واختتم شيخ الأزهر كلمته، قائلا : الحضورُ الكريم أشكرُ لكمْ حسنَ الاستماعِ، واعتذرُ إن كنتُ قد أطلتُ سائلًا الله العظيم أن يحفظنا وإياكم أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.