رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الإمساك بالقمر».. محمود الوردانى يروى التاريخ السرى لمعارك الثوار والأدباء

 للكاتب محمود الوردانى.
للكاتب محمود الوردانى.

 

صدر مؤخرًا عن دار الشروق للنشر والتوزيع، كتاب «الإمساك بالقمر.. فصول من سيرة زماننا» للكاتب محمود الوردانى.

وجاء فى مقدمته التى حملت عنوان «هذه الأوراق»: «لم أكن قد فكرت فى كتابة هذه الأوراق التى بين يدى القارئ، وفور شروعى فى الكتابة لاحظت كم أن جرح هزيمة ١٩٦٧ كان غائرًا بل وصاحيًا، ولم يكن من هُزم هو تلك النظم العربية وحدها، بل هزمت أحلام وآمال وأيام ومستقبل جيل الستينيات وما تلاه من موجات، من بينها موجة السبعينيات التى أنتمى إليها».

وأضاف المؤلف: «هنا لا بد أن أضيف أننا لا نزال حتى الآن نعيش تداعيات تلك الهزيمة المروعة، وما زالت الأسباب التى أدت إلى تلك الهزيمة مستمرة، حتى لو كان حكام الهزيمة قد رحلوا منذ سنوات».

خلال صفحات الكتاب، يسرد «الوردانى» عددًا من التجارب التى أتيحت له، ومن بينها التظاهرة التى قادها الأديب الراحل يوسف إدريس بعد اغتيال الموساد الإسرائيلى الكاتب الفلسطينى غسان كنفانى، أحد الرموز الكبرى للمقاومة الفلسطينية والناطق الرسمى باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعضو مكتبها السياسى فى قلب بيروت فى يوليو ١٩٧٢، على مرأى ومسمع من العالم كله، وبرفقته ابنة أخته لميس، غير أن أحدًا لم يحرك ساكنًا، والموساد يختال ويزهو بعمليته القذرة.

بعد الاغتيال بيوم واحد، وأثناء جلوس «الوردانى» على مقهى ريش فى وسط القاهرة، حيث يجتمع الأدباء والمثقفون، فى ظهيرة أحد الأيام، فوجئ بيوسف إدريس الذى لم يكن يتردد كثيرًا على ريش، وكان آنذاك نجمًا من نجوم المجتمع، خلفه كل ذلك الإنجاز الضخم من الأعمال القصصية والروائية، ويكتب صفحة أسبوعية فى الأهرام.

أوضح «الوردانى»: «كنا مجموعة قليلة من الكتاب، وكان إدريس مثلنا ينتفض غضبًا من استفزاز الموساد، واستهدافه كاتبًا فلسطينيًا، ومن رد فعل الأنظمة العربية المخجل، ومن عجزنا وقلة حيلتنا فى مواجهة التوحش الإسرائيلى».

واستطرد: «كان يوسف هو الذى بدأ وعلى نحو تلقائى فى التفكير فى تلك الخطوة المجنونة. اقترح أن ينظم أولئك الموجودون بالصدفة على المقهى تظاهرة للتعبير عن الغضب».

وأضاف: «كان التفكير فى مثل تلك الخطوة ضربًا من الجنون المطلق، فى ظل فرض حالة الطوارئ وظروف الحرب والاحتلال، لكن يوسف أصر وأعلن أن الاشتراك فى التظاهرة أمر شخصى، وأنه سيشارك فيها ممثلًا للوجه البحرى، ومعه يحيى الطاهر عبدالله ممثلًا للصعيد حتى لو لم يشارك فيها أحد سواهما».

وقال: «عكف نجيب سرور بخطه المميز على كتابة أغلب اللافتات. أما أنا فاصطحبتنى رضوى عاشور إلى محل خردوات لا يزال قائمًا حتى الآن فى شارع طلعت حرب وبه تليفون. راحت تتصل من أجندتها الخاصة بكل مَن تعرفه وتطلب منه الحضور فورًا إلى ريش للاشتراك فى التظاهرة».

وشرح «الوردانى»: «على الرغم من أن كل شىء كان وليد اللحظة دون تخطيط أو استعداد من أى نوع، إلا أنه تجمع عدد يتراوح بين ٤٠ و٥٠ كاتبًا أذكر منهم نجيب سرور، ويحيى الطاهر عبدالله، وبشير السباعى ورضوى عاشور ومريد البرغوثى وسعيد الكفراوى وسليمان فياض، وغيرهم». وأضاف: «المثير للدهشة أن أجهزة الداخلية لم تمنع التظاهرة قبل أن تتحرك، على الرغم من أننا كنا نعرف المخبرين الملازمين لمقهى ريش معرفة جيدة». وكتب «الوردانى»: «لم تكن تظاهرة بل مسيرة صامتة، سارت بأقصى قدر من الانضباط والنظام تحمل اللافتات عاليًا من شارع طلعت حرب إلى شارع عبدالخالق ثروت حيث نقابة الصحفيين، وهناك ظهرت الشرطة، حيث وجدناهم فى سيارة وشاهدنا بعض الضباط الذين كانوا يبلغون رؤساءهم عبر الأجهزة الممسكين بها فى أيديهم بالتطورات، وسمعتهم يذكرون اسم يوسف إدريس، إلا أن أحدًا لم يعترضنا حتى باب النقابة، بينما تقدم ضابط كبير الرتبة، وعبر الباب متوجهًا إلى يوسف إدريس باعتباره مسئولًا عن الشغب».

فى الفصل العاشر من الكتاب الذى حمل عنوان «معركتان»، كشف الوردانى عن أحد الهموم الأساسية لهذه الأوراق التى كتبها لتلمس ملامح المناخ الذى عاشه، والغوص فى بعض تفاصيله المسكوت عنها، أو غابت فى زحام الأيام ثم الشهور والسنين.

توقف فى هذا الفصل عند معركتين خاضهما المثقفون لتوضيح ذلك الأمر، الأولى هى المواجهة بين مجلة «الكاتب» التى كانت أحد المنابر الجادة التقدمية، ذات طابع يسارى قومى، ولعبت دورًا بارزًا بين الكتاب العرب على مدى عدة عقود، حتى عيّن السادات يوسف السباعى وزيرًا للثقافة، ليستعيد هيبة الدولة من أولئك الذين تجرأوا على خرقها عدة مرات.

كتب «الوردانى»: «كان السباعى مفتونًا بنفسه، ويعتز بكونه روائيًا مظلومًا طالما تجاهله نقاد اليسار ذوو النفوذ الواسع آنذاك، لذلك فإن كراهيته لليسار لم تكن مجرد جزء من توجه عام وراسخ فى الدولة فقط، بل هناك أيضًا جانب شخصى، لذلك بادر بإصدار مجلتين هما «الثقافة» التى ترأس تحريرها هو شخصيًا، و«الجديد» التى ترأس تحريرها رشاد رشدى المعروف بعدائه للتقدميين بشكل عام».

بقيت مجلة «الكاتب» شوكة فى حلق «السباعى»، لم يعرف كيف يتخلص منها، إلى أن سنحت له الفرصة حين نشر صلاح عيسى مقالًا أشار فيه إلى أن هناك طوال الوقت وجهتى نظر لحل القضية الوطنية ومواجهة الاحتلال الإسرائيلى، فقدم السباعى البلاغات وسارع بالتنبيه على المطبعة بعدم جمع أى مادة إلا بموافقته شخصيًا. كما أرسل لرئيس التحرير اسم أحد مساعديه المقربين، وهو عبدالعزيز صادق، ليتولى إدارة التحرير، ثم أصدر أمرًا بعدم طبع المجلة إلا بعد الانصياع لقراراته، وجرت محاولات كثيرة لرأب الصدع وإصلاح ما بين السباعى والمجلة.

تدخل على نحو غير معلن بعض الشخصيات التى تلقى قبولًا من الطرفين، وجرت مفاوضات مبدئية انتهت فى إحدى مراحلها بموافقة هيئة تحرير «الكاتب» على استبعاد صلاح عيسى من هيئة التحرير مؤقتًا، وفى الوقت نفسه عدم قبول تعيين عبدالعزيز صادق، الذى اختاره السباعى مديرًا للتحرير.

واعتبرت المجلة أن تعيين «صادق» يعد تدخلًا وعدوانًا وتشكيكًا فى وطنيتها، كما طالبت بعدم التدخل فيما تنشره باعتباره حقًا أصيلًا لهيئة التحرير. وكتب «الوردانى»: «أما المعركة التالية هى معركة اتحاد الكتاب التى هزم فيها المثقفون المطالبون باتحاد كتاب وطنى ديمقراطى، وكان نتيجة ذلك الاتحاد الشائه الماثل أمامكم، الذى ما زلنا نعانى من عدم فاعليته، ومن موته السريرى منذ ما يقرب من أربعين عامًا». 

فى الفصل الحادى عشر من الكتاب الذى جاء بعنوان «حملات الشتاء»، يتابع «الوردانى» بعض الوقائع والأحداث والظواهر المرتبطة بجيله وما جرى للكتاب والفنانين الذين فرض عليهم عدم الاقتراب من العمل العام أو حتى التورط فيه، خلال الفترة من ١٩٧٥ وحتى انتفاضة يناير عام ١٩٧٧.

قال: «درجت أجهزة الأمن منذ وقت طويل، ربما منذ حملة رأس السنة عام ١٩٥٩ ضد اليسار، على القيام بهجماتها فى الشتاء تحديدًا، بالنسبة لى فقد شهدت مثلًا الهجمة ضد اعتصام الطلاب واقتحام جامعة القاهرة فى يناير ١٩٧٢، كما شهدت أيضًا هجمة يناير عام ١٩٧٥، ثم هجمات أخرى استمرت حتى أوائل ثمانينيات القرن الماضى، وبدأت جميعها فى الشتاء».

وأضاف: «الشرارة انطلقت بتظاهرات عمال حلوان فى باب اللوق، التى انطلقت قبل أن يستقلوا المترو فى اتجاه مصانعهم، عندما قرأ بعضهم فى الصحف عن موجة جديدة من ارتفاع الأسعار، وسرعان ما تحولت إلى تظاهرات صاخبة اجتاحت شوارع وسط البلد وامتدت هنا وهناك».

وتابع: «بعد أيام قليلة، شنت أجهزة الأمن حملة ضد الكتاب اليساريين، وألقت القبض على ما يزيد على ثلاثين كاتبًا وناقدًا وفنانًا تشكيليًا وأودعتهم ليمان طرة وكل من له علاقة مباشرة أو غير مباشرة». وأوضح: تقدم يوسف السباعى ببلاغ بوصفه وزيرًا للثقافة أيضًا إلى أجهزة الأمن، يتهم فيه «جمعية كتاب الغد» بأنها واجهة لتنظيم شيوعى سماه الوزير «اليسار الجديد». 

وتابع: «فى ذلك السياق جرى القبض على أحمد فؤاد نجم ومحمد كامل القليوبى وإبراهيم منصور وعزالدين نجيب وصلاح عيسى وزين العابدين فؤاد ونجيب شهاب الدين وعبدالرحمن أبوعوف ومحمد روميش وغيرهم».

وأشار إلى أن دور السباعى فى الأمر كشفت عنه النيابة نفسها، حين جرى التحقيق مع عزالدين نجيب والقليوبى، ووفقًا لكتاب الأول «رسوم الزنزانة» الذى أصدرته هيئة قصور الثقافة عام ٢٠١٤، فإن النيابة واجهت كلًا منهما ببلاغ السباعى ضدهما بوصفهما، هما وغيرهما، أعضاء فى جمعية «كتاب الغد» واجهة تنظيم اليسار الجديد الشيوعى السرى.

واستشهد «الوردانى» بتوضيح عزالدين نجيب للسبب الحقيقى للقبض عليه هو وغيره من المشتغلين بالكتابة، كما سجلها فى كتابه «رسوم الزنزانة»، وأن هناك أسبابًا أخرى من بينها اشتراكه فى حملة توقيعات لإقامة اتحاد ديمقراطى للفنانين التشكيليين، ورفعها إلى مجلس الشعب عام ١٩٧٤.

سرعان ما تم كشف تهافت القضية الملفقة وتنظيم اليسار الجديد، وبعد شهور قليلة لم تستطع النيابة أن تقدم للمحكمة قضية متماسكة، واضطرت الأخيرة للإفراج عن الجميع، وبحسب «الوردانى» فإن أجهزة الأمن كانت تعلم جيدًا أنه ليس هناك تنظيم جديد اسمه التيار الجديد، إلا أنها كانت تريد أمرين: التنكيل بالمثقفين المناوئين واعتقالهم وتأديبهم بضعة أشهر، واستكمال ملفاتها وترتيب أوراقها.

واختتم «الوردانى»: «كانت تريد أيضًا إرباك كل المعارضين للنظام، لذلك كانت الحملة واسعة، وشملت كثيرين هربوا من أوامر القبض، مثل الشعراء فؤاد قاعود ومحمد سيف وربما عزت عامر، وكاتب المسرح محمد الفيل، وغيرهم».