رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأصول التى لا يعرفها الكثيرون الآن

«الأصول» هى مجموعة من القواعد والأطر والتوجيهات التى تحدد السلوك السليم أو الصائب الذى يمكن قبوله فى المجتمع، وهى تحدد كيفية القيام بنشاط ما، أو بعمل ما، بحيث يكون هناك رقى فى الفعل وفى القول.. وهى تحدد أيضًا ما لا يمكن قبوله من السلوك أو القول فى المجتمع، وهذه القواعد تختلف من مجتمع لآخر، ومن دولة لأخرى، وفى الدولة الواحدة تختلف من فئة لفئة ومن بيئة لبيئة.

ويمكن أن يطلق عليها أيضًا قواعد الإتيكيت التى وجدت منذ آلاف السنين ونشأت وتطورت كقواعد صارمة فى مختلف المجتمعات، وكانت مهمتها تنظيم السلوك السليم، وهى تحدد ما هو سليم وما هو مرفوض فى التعاملات بين الأفراد. وفى العلاقات الدولية تحدد قواعد البروتوكول أسس التعاملات بين الدول.

وإذا ما أردنا أن نطبق هذا على مجتمعنا وبإلقاء نظرة على أساليب التعاملات بين الأفراد فى الوقت الحالى فسنجد أننا نعيش فى فوضى لا تمت بصلة لقواعد التعامل بالأصول بين الأفراد أو بقواعد البروتوكول المتعارف عليها بين الناس فى مجتمعنا، فهناك أجيال شبت ونشأت على تعلم الأصول فى السلوكيات مع الآخرين، وأجيال جديدة لا تعرف معنى الكلمة ولا الهدف منها، وهذه الأجيال لم يتم توجيهها إلى أهمية التعامل بالأصول.

وإذا ما أردت أن أكون أكثر دقة فإننى أقول إن كلمة «الأصول» لا يعرفها غالبية الأفراد فى بلدنا ولا يتعاملون بها، بل إن كلمة «الأصول» لم تعد كلمة متعارفًا عليها فى مجتمعنا، خاصة أننا فى السنوات الـ١٠ الأخيرة شهد بلدنا تغيرات واتجاهات وتيارات كثيرة كان كل هدفها نشر الفوضى والكراهية والتكفير بين الناس فى بلدنا، وكان الهدف سياسيًا بالدرجة الأولى للاستيلاء على السلطة ولم تنجح فى هذا، إلا لمدة عام أسود، وكان الشعب هو المستهدف لينقلب على بعضه البعض ويضعف النسيج الوطنى المتماسك عبر العصور، وأضف إلى هذا انتشار أشكال كثيرة من الدراما والأفلام التى تنشر العنف والقتل وتروج للسوقية والفجاجة، والسطحية، فرأينا مسلسلات درامية تصور لنا المجتمع المصرى على أنه مجتمع ملىء بالعنف والبلطجة.

ورأينا مسلسلات تمجد العنف والخيانة والألفاظ السوقية، ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعى وتقلص دور الأسرة فى التربية والإهمال من الأهل فى التوجيه للسلوك السليم والصائب ضاعت قيم كثيرة، وأضف إلى هذا أيضًا افتقاد التلاميذ التوجيه إلى السلوكيات الحميدة والتهذيب وترك المدرسة لدورها فى التربية، وهكذا كادت أن تختفى فكرة التعامل بالأصول واتباع قواعد الرقى فى السلوكيات فى مجتمعنا إلا من فئة عددها قليل لا تزال تحرص على فكرة الأصول والتعامل بالأصول، والحرص على التهذيب والرقى فى التعاملات اليومية.

وفى الحوار بين الأفراد، لاحظت أننى كلما أردت أن أوجه نظر بعض السيدات أو إذا ما أردت أن أوجه إلى ضرورة الهدوء فى الحديث أو احترام الأكبر سنًا، أجد أن الكثيرين لا يكترثون بهذا ولا يدركون أن الحفاظ على مجموعة القواعد المحددة للسلوكيات فى مجتمع ما هى التى تحميه من انتشار الفوضى وضياع القيم وبالتالى إضعاف هوية هذا الوطن.

وأتذكر جيدًا أننا كنا نتعلم الأصول فى السلوكيات منذ سن صغيرة، فكنا ونحن صغار يحرص أهلنا على أن نتحلى بقيم الأخلاق والتهذيب واحترام الكبير واختيار الأنسب لنا لنشاهده فى الأفلام أو فى الدراما، وكنا ندرك جيدًا أننا لا بد أن نحرص على اتباع الأسلوب الراقى فى التعامل مع الآخرين، وإلا غضب منى أمى وأبى، وكان أهم درس تعلمته منذ الصغر هو أن التعامل مع كل من حولى لا بد من أن يتم بشكل راقٍ ومهذب حتى أكون متميزة عن الآخرين فى أسلوب تربيتى وتعاملاتى.

لهذا فإننى ومن هذا المنطلق لا بد أن أضيف هنا أن تعلم الأصول يبدأ من البيت، لأن اتباع الأصول فى السلوك والفعل هو أسلوب تربية وتوجيه للأبناء والبنات على الحرص على مبادئ السلوكيات ومراعاة الأخلاق فى التعامل مع الآخرين، بل فى مختلف مجالات الحياة.. فى البيت والعمل والطريق والشارع وفى المطعم وفى الطريقة التى تتعامل بها فى كل مكان وزمان بدءًا من طريقة اللبس وتسريحة الشعر والمظهر العام.. واختيار طريقة الكلام والتحدث مع الآخرين وطريقة تناول الطعام وطريقة تنظيم المائدة وطريقة الجلوس.. إنها باختصار أسلوب حياة كامل ومتكامل.. لا يعرفه سوى من نشأ عليه.

وهناك عائلات عريقة فى بلدنا ربت وأنشأت أبناءها على الأصول ومراعاة الغير ومراعاة قواعد السلوك الصحيح، كان هذا يحدث فى الأجيال التى سبقتنا وأنا ممن أتيحت لهم معرفة الأصول من خلال توجيهات مستمرة من أمى وأبى.. وتعلمت منهما أن أولاد الأصول يحرصون على التحلى بالمبادئ والأخلاق والسلوكيات الحميدة والصحيحة والمتناسبة مع نشأتهم وكان أمى وأبى يتحدثان معنا دائمًا وباستمرار عن العيب والحرام وعن الصح وعن الخطأ، وكانا يؤكدان أن هناك فرقًا كبيرًا بين السلوك الخطأ والسلوك الصحيح، وأن الإنسان هو الذى يختار الصح أو الخطأ وأن مردود الصح أو الخطأ يعود على الفرد ذاته خلال حياته.

وكانا يحرصان على أن يعلمانا احترام الكبير والعطف على الصغير.. وعدم رفع الصوت عاليًا فى الأماكن العامة وفى العمل وفى أى مكان نذهب إليه، وأننا لا بد ألا نرفع صوتنا لأن هذا من شأنه أن يجعل سلوكنا معيوبًا.. وأن الأصول تقتضى أن نحرص على احترام معلمينا ومدرسينا وأساتذتنا فى المدرسة وفى الجامعة، وأننا لا بد أن نتفوق فى دراستنا وأن تكون لنا هواية رياضية أو فنية، وأتذكر أن أبى الدكتور والأستاذ الجامعى أحضر لى يومًا هدية كانت عبارة عن كتاب عن أصول الإتيكيت باللغة الفرنسية التى كنت أتقنها وأنا فى سن ١٣ سنة حتى أحرص على اتباع الصواب والرقى فى أفعالى وأقوالى، وهكذا نشأت على اتباع الأصول وحرصت على أن أوجه ابنتى وابنى على ما نشأت عليه.

إلا أننى اليوم أنظر حولى فأرى أن هذا لا يحدث بل ترك الأمهات والآباء دورهم فى التوجيه والتربية والتنشئة السليمة، وتركوا الأبناء لتأثيرات أخرى خارجية معظمها سلبى وعشوائى، وهكذا أصبحت لدينا أنماط وسلوكيات كثيرة تتسم بالفوضى وأجيال تقلد أسوأ ما تراه من نماذج سيئة فى المسلسلات والأفلام، ولهذا فإننا لا بد أن نستعيد أساليب التنشئة السليمة، وأن نستعيد الحرص على غرس مجموعة الأصول التى نشأت عليها العائلات المصرية العريقة قبل ٢٠١١ التى تميز الهوية المصرية التى بسببها تمت المحافظة على سمات الشخصية المصرية عبر العصور.

إن هذه القواعد والقيم والأطر هى التى يمكننا من خلالها أن نستعيد ملامح الشخصية المصرية، التى نراها فى الأفلام الأبيض والأسود، فمصر ليست مجموعة البلطجية الذين يظهرون فى نوعية المسلسلات والأفلام الجديدة التى انتشرت فى السنوات العشر الأخيرة.

والأسر المصرية لا بد أن تنتبه إلى توجيه وتنشئة أبنائها على الأصول وعلى مجموعة القيم الثابتة التى ميّزت الشخصية المصرية وحافظت على تماسك النسيج الوطنى، فلقد كان المصرى دائمًا ما يتسم بالطيبة والكرم والشهامة واحترام الكبير وتماسك الأسرة وحب الفن والثقافة والحياة والبهجة وإكرام الضيف والحرص على أناقة الزى المصرى فى المدينة وفى الريف وفى الشارع وفى الأندية وفى الجامعات، وفى الحفلات التى كان يسعد المصريون بحضورها كل شهر لسيدة الغناء العربى كوكب الشرق أم كلثوم، فنرى صور المصريين وتسجيلات الحفلات للسيدات والرجال فى كامل أناقتهم.. استعيدوا التعامل بالأصول، واستعيدوا حرص المصريين والمصريات على أناقتهم فى كل مكان، واستعيدوا بهجة الحياة وتمجيد الفنون والثقافة، وتصدوا للبلطجة والعنف لتحافظوا على سمات الشخصية المصرية العريقة.