رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نورا ناجى تكتب: «ماكيت القاهرة».. عندما تكرر المدينة نفسها

نورا ناجى
نورا ناجى

بالنسبة لىّ يحدث التماهى مع النص عندما أشعر وكأن الكاتب اخترق أفكارى، تتحول الرواية إلى لعبة تفاعلية بشكل ما، وتتحول أيضًا إلى تحدٍ جميل.. إذا كان الكاتب سيواصل التعبير عنى بهذا الشكل، أو أن التماس الحاصل مع أفكارى سيزداد تعقيدًا وتعمقًا، أو سيبتعد قليلًا فألتقط أنفاسى، لكنى أظل مسلوبة بسحر هذه الغواية الممتعة.

«تفكر أن أسوأ ما فى الفن أنه لا يستطيع أبدًا- حتى وهو يحاكى الشخصيات أو الأمكنة حد نقلها بصورتها نفسها فى مادة غير تخيلية- أن يفعل الشىء نفسه مع الزمن».

فى «ماكيت القاهرة»، يكتب طارق إمام عن ثلاثية الفن- الثورة- المدينة، أما الرابط الخفى مثل حبال مجدولة متحركة فهو الزمن، ما الماضى وما الحاضر وما المستقبل؟ الماضى الذى كان حاضرًا ذات يوم، ومستقبلًا ذات يوم سابق، ثم الحاضر الذى سيتغير بعد حين، والمستقبل الذى يمكننا أن نعتبره حاضرًا متقدمًا، ثمّة تعقيد فى الزمن، ومِن هذا التعقيد يحدث كل شىء، فماذا لو كان الزمن فى الرواية رأسيًا وليس أفقيًا كما اعتدنا تخيله؟ ماذا لو كان الماضى والحاضر مجرد مصغرات داخل مستقبل سيحدث أو لا يحدث؟ وماذا أيضًا لو تزامنت الأحداث أو تسارع إيقاعها أو أودت التغيرات فى كل زمن إلى انهيار كامل، انهيار ستتم إعادة تكوينه مرة أخرى، لأن الزمن الرأسى ليس عمودًا واحدًا، بل نقطة ضمن أعمدة أخرى كثيرة على الخط الأفقى، ومن هنا يأتى التداخل والغرابة، ومن هنا أيضًا يمكن أن يطلق العقل عنانه ليفكر، ويرى ويسمع ويحس؟.

«نحن نصنع بيوتنا ثم نعجز عن أن نراها»

«أوريجا» الذى قتل أباه بأصابع يده الصغيرة بعد أن صوبها على شكل مسدس، سيعيش معتقدًا بأنه فى مأمن من كل شىء، لأن ثمّة رصاصة باقية فى سبابته، ثمّة حاجز معقد بين الخوف والغضب والإنكار والهرب يسيطر على حياته، ويجعله يرى الحياة مصغرة، يفصله عنها لوح زجاجى، مثلما يفصل بين بلياردو وعشيقاته من المانيكانات زجاج واجهات العرض، وتعيش «نود» مع شخص يسكن المرآة، تبادله الحب عبر الزجاج، ثمّة حاجز بين الشخصيات والحياة، حاجز زجاجى يرون من خلاله كل شىء، لكنهم أيضًا محبوسون خلفه، فخ نصبه الزمن، زجاج يزيّف ربما التاريخ، أو يشوهه وكأنه حلم، التاريخ محض حلم كما يكتب طارق إمام على لسان شخصياته، وهذا يعنى بطبيعة الحال أن الحياة كلها كذلك.

«كان العالم بالنسبة لبلياردو يومًا واحدًا لا يكف عن تكرار نفسه».

يقول طارق إمام إننا نعثر على أنفسنا فى التكرار، لأن الحياة مجرد مشاهد مكررة، ولكنها مختلفة فى ذات الوقت، يقولون إن التاريخ يعيد نفسه، لكنه لا يُعاد بنفس الأحداث، ربما يترك ذات الانطباع أن الحياة مزحة، ولكن فى كل تكرار حكاية مختلفة، كل الكتب التى نقرأها مرة بعد أخرى، كل مرة نسمع فيها نفس الأغنية، النسخ اللا نهائية من المكان الواحد، التكرار يلغى نفسه فى النهاية، مثل المدينة التى تختفى، والحيوات التى يعاد إنتاجها، وكأنها مجرد هامش لأساس غير حقيقى. ما الحقيقى وما المزيف؟ ما الخيال وما الواقع؟ ما الأصل وما النسخة؟ ما المتن وما الهامش؟ كل التناقضات، كل الأسئلة، كل ما عشناه فى السنوات الماضية هى ما شكّل هذا النص.

«كل نص يظل قابلًا للتلقّى حتى لو كان ناقصًا أو غير مكتمل.. ودعينى أقول إن العزاء الأكبر هو أنه لا وجود لنصّ مكتمل».

لا نص مكتملًا، هكذا يحكم طارق إمام على نصه وكل النصوص، ويمنحه هذا النقص الحرية فى اللعب باللغة، بالمجاز والميتافيكشن، بالسخرية حتى والمعارضة، لكن طارق بنصه يتمكن فى النهاية من إثبات أن من هذا النقص يأتى كل الكمال.