رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نساء المماليك.. عندما يجتمع سلطان «الجمال» مع سطوة «المال»

حياة "نساء المماليك" كانت شديدة الإثارة والغرابة، كان أغلبهن جركسيات، يمتزن بجمال باهر، وجاذبية شديدة، ولعلك سمعت أو قرأت عن نفيسة المرادية، وهي واحدة من أشهر نساء المماليك، وكانت تمتاز بجمال ملفت جعل أهل زمانها يلقبونها بــ"نفيسة البيضاء"، بالإضافة إلى الجمال تمتعت "البيضاء"بشخصية قوية مريدة اكتسبتها من الخبرات التي راكمتها عبر زيجاتها التالية من أمراء المماليك، فقد تزوجت في البداية من علي بك الكبير، الأمير الذي استقل بمصر عن الحكم العثماني، وبعد وفاته تزوجت مراد بك، الذي تشارك مع إبراهيم بك في حكم مصر، وخلال فترة حكمهما غزا نابليون البلاد، وسيطر عليها، وبعد وفاة مراد بك، تزوجت "نفيسة" إسماعيل بك، أمين احتساب مصر. 

لعلك تلاحظ أن نفيسة البيضاء تقلبت على عدد من الأزواج كلهم من المماليك، ولم يكن لها أن تتزوج من غيرهم من الأتراك الذين حكموا مصر بعد أن فتحها سليم شاه عام 1517، ولم يكن ذلك دأب "نفيسة" وحدها، بل كان ديدن كل نساء المماليك، فقد كنَّ ينظرن إلى "الترك" نظرة دونية، وكانت المرأة منهن ترضى بأن تقع أسيرة في يد مملوك، تغلب على المملوك زوجها؛ لتعيش بقية عمرها جارية في بيت الأمير المتغلب عن أن تتزوج "تركيًا". فالمملوك في نظرها مملوك حتى ولو جعلها جارية يتسرى بها حين يريد. 

يحكي "الجبرتي" أنه لما نوى محمد علي الصلح مع خصمه اللدود محمد بك الألفي بدأ مماليك الأخير في الظهور، وعندها ظهر الكثير من نساء المماليك ورغبن في الزواج من المماليك الألفية، وكانت الغنية من هؤلاء السيدات تغري المملوك "الألفي" بالمال والكساوي والبيوت وأثاث البيوت حتى تجذبه إلى زواجها، وهو أمر كان يغيظ الأتراك أشد الغيظ. يقول "الجبرتي": "كان العظيم من الترك إذا خطب أدنى امرأة ليتزوج بها، فلا ترضى به وتعافه، وتأنف قربه، وإذا ألح عليها استجارت بمن يحميها منه، وإلا هربت من بيتها واختفت شهورًا، وذلك بخلاف ما إذا خطبها أسفل شخص من جنس المماليك أجابته في الحال".

ومؤكد أن أغلب سيدات البيوت الكبيرة في مصر– حتى من غير المماليك- كان ينسحب عليهن هذا الأمر. فصورة "التركي" لديهن كانت شديدة السلبية، على عكس تصوراتهن عن رجال المماليك، ولهذا الأمر أصل يعود إلى السنوات الأولى لدخول الأتراك بقيادة سليم شاه إلى مصر. وبإمكانك أن تجد صدى هذه النظرة فيما كتبه "ابن إياس في كتابه: "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، فقد عدَّد مثالب وسلبيات "سليم شاه" مشيرًا إلى أنه في مدة إقامته في مصر لم يجلس بقلعة الجبل على سرير الملك جلوسًا عامًا، ولا رآه أحد، بل كان شغوفًا بلذته وسكره وإقامته في المقياس بين الصبيان المرد، ويجعل الحكم لوزرائه بما يختارونه، ليس له قول ولا فعل، وكلامه ناقض ومنقوض لا يثبت على قول واحد كقول الملوك وعادتهم في أفعالهم. فالسلطان سليم من وجهة نظر ابن إياس مهزوز الرأي، يفتقر إلى ما يجب أن يتوافر في الملوك من حسم وحزم، وسمات أخرى عديدة.

ولم يكن جنود سليم شاه أقل رداءة- من وجهة نظر "ابن إياس"- من سلطانهم. يقول "ابن إياس": "أما عسكره فكانوا جميعًا عيونهم دنية، ونفوسهم قذرة، يأكلون وهم راكبون على خيولهم في الأسواق، وعندهم عفاشة في أنفسهم زائدة وقلة دين، يتجاهرون بشرب الخمر في الأسواق بين الناس، ولما جاءهم شهر رمضان كان غالبهم لا يصوم ولا يصلي في الجامع، ولا صلاة الجمعة إلا قليلاً منهم، ولم يكن عندهم أدب ولا حشمة، وليس لهم نظام يعرف لا هم ولا أمراؤهم ولا وزراؤهم وهم همج كالبهائم". 

قد يقول قائل إن "ابن إياس" تأثر في حكمه على السلطان سليم والترك عمومًا بثقافة الحكم المملوكي التي عاصرها، بالإضافة إلى أنه كان جركسيًا ينتمي إلى قبيلة "أباظة" الجركسية، الأمر الذي دفعه إلى الجور في الحكم، حين توقف عند مجموعة من السلوكيات الكاشفة عن الفقر الحضاري لدى جنود "سليم شاه"، فأشار إلى قذارتهم ودناءتهم، وجهرهم بالمعاصى، وعدم احترام المقدسات والفوضوية، وخلص إلى أنهم كانوا همجًا أقرب إلى البهائم منهم إلى البشر الطبيعيين، وأهمل ما امتازوا به من شجاعة وجرأة مكنتهم من فتح بلاد العرب من العراق حتى مصر. هذا القول له وجاهته بالطبع، لكن يبقى أن وصف "ابن إياس" للترك لم يكن بعيدًا عن سمات الصورة الراسخة لهم لدى المماليك "بعد مرور عدة قرون على دخولهم إلى مصر"، ويدلل على ذلك موقف نساء المماليك منهم، ورفضهن الزواج من "تركي" مهما علا شأنه، وتفضيلهن المملوك عليه مهما تدنى وضعه.

ولعلك تجد دليلاً على ذلك فيما فعلته أرملة علي بك قطامش التي مات عنها زوجها البك، وكان لها منه ولد هو الأمير عمر بك، وتقدم لها أعاظم الترك كي يتزوجوها فرفضت رفضًا قاطعًا، والأعجب أنها اختارت واحدًا من المماليك، الذي كان زوجها قد اشتراه وأعتقته ومنحته حريته ثم تزوجت منه، ليس ذلك فقط، بل وتدخلت بعد ذلك لدى أكابر المماليك ليتم تعيينه "سنجق" مسئول عن إحدى المديريات إكراماً لـ"الست"، وقد دأب من حوله على وصفه بـ"سنجق سته"، قاصدين السيدة المملوكية التي أعتقته وتزوجته ثم تدخلت لتعيينه في هذا الموقع، ورأت أن الزواج بعبدها المملوك خيرا لها من الزواج بتركي مهما عظم شأنه.

كانت المرأة المملوكية تتحرك بإحساسين، أولهما الإحساس بالسمو العرقي، فأغلبهن كن ينتمين إلى العرق الجركسي "الجراكسة آخر سلالة مملوكية بمصر"، وهو ما كان يمنح السيدة المملوكية نوعًا من الشعور بالذات، وكانت ترى في العرق التركي عرقًا غازيًا مغايرًا، جاء إلى مصر فأطاح بآباء الجراكسة وأجدادهم من كراسي الحكم، وذلك على الرغم من تواصل النفوذ المملوكي على قصور الحكم في مصر، وتحول الجراكسة إلى حكام فعليين للبلاد، إلى جوار الباشا التركي الذي لم يكن أكثر من حاكم اسمي، الإحساس الثاني يمكن وصفه بالإحساس بالعلو الطبقي، فالسيدة المملوكية كانت تملك المال الذي يمنحها السطوة والسيادة، ويجعلها لا تغتر بمال التركي مهما زاد.

وليس ثمة خلاف على أن المرأة التي تحوز المال والجمال تشعر بامتلاك سلطة يتصاغر الكثيرون أمامها.