رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حتى لا ينخدع شبابنا مرة أخرى

في ديسمبر 1979، بدأت الحرب السوفيتية ـ الأفغانية.. قاتلت قوات المقاومة هناك، المعروفة باسم (المجاهدين)، التدخل السوفييتي في أفغانستان.. وتلقت بعض الفصائل الدعم من الولايات المتحدة، حيث عمل جهاز الاستخبارات الباكستاني كوسيط أمريكي.. وكان على الاتحاد السوفييتي سحب قواته في فبراير 1989.. وكان أيقونة الجهاد في تلك الفترة، الفلسطيني الدكتور عبدالله عزام، الذي كان عراب الجهاد في تلك البلاد، واستطاع جذب عشرات الآلاف من الشباب الذين اندفعوا، بحمية دينية غير متعقلة، ولا عالمة بحقيقة ما يحدث على هذه الأراضي، خاصة بعد الانسحاب الروسي من كابول وما حولها، وبدء التناحر بين من كانوا يعرفون بأقطاب المقاومة هناك، عبد رب الرسول سياف، قلب الدين حكمتيار، وأحمد شاه مسعود، وغيرهم، في حين أقنعت الولايات المتحدة الأمريكية العديد من الدول العربية، والخليجية على رأسها، بفنح باب التبرعات للأفغان، وتيسير السبيل أمام من يريد أن يذهب للجهاد!.
كانت وسيلة عزام في تجنيد الشباب العربي وغيره من الدول الإسلامية للجهاد في أفغانستان، مجلة (المجاهد) التي كان يصدرها باللغة العربية، وتصل إلى منطقة الخليج بالذات، أوائل كل شهر، إلى جانب كتابه (آيات الرّحمان في جهاد الأفغان) الذي ألفه عن كرامات المجاهدين في تلك البقاع البعيدة!!.. والحقيقة، أنه لم يوجد كتاب، في نهاية القرن الماضي، اكتسب نسبة مقروئية، كما اكتسبها هذا الكتاب.. يكفي أنه عندما ظهر مطبوعاً، لم تُلبّ النسخ المتداولة حجم الطلب عليه، فلجأ الشباب المتلهف على قراءته إلى تصويره، أو قراءة النسخة المطبوعة في ليلة واحدة ليأخذها شباب آخر.. ودخل على سكرة الكتاب، الإعلام العربي، مقتبساً منه فقرات وقصصا ليؤكد أن (الملحمة الأفغانية) ملحمة ربّانيّة بحقّ!.. بل وقام بعض وسائل الإعلام الغربية بنقل فقرات منه، وتسجيل تأثر الشباب في العالم العربي والإسلامي بما ورد فيه، وهي بذلك تزيد السّكارى سُكراً على طريقة (إسقني خمراً وقل لي هي الخمر.. ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر).
وقد اعترض بعض العقلاء على هذا الغلو الذي قدم به عبدالله عزّام (كرامات المجاهدين في أفغانستان)، ولكنه تصدى بقوة لهذا الاعتراض، في محاضراته المسموعة والمرئية، وفي بعض كتاباته في المجلات الجهادية.. وكانت حجّة هؤلاء العقلاء، أن الكثير مما ورد في كتابه لا يصدقها العقل، بل وإن بعضهم اتصل بمن روى عنهم عزّام بعض الكرامات، فكذّبوا جملةً وتفصيلاً ما ذكره عزّام.. وفي كتاب (العائدون من أفغانستان.. ما لهم وما عليهم) لعصام درّاز، تكذيب لكل ما ورد في كتاب (آيات الرّحمان في جهاد الأفغان)، والذي أكد (لقد اختلفت مع الدكتور عبدالله عزّام في هذا الموضوع، وبدأت بجهد ذاتي أبحث عن الحقيقة بحياد وإخلاص.. وأستطيع أن أقول إنّني وصلّت إلى نتيجة خطيرة، وهي أن موضوع الكرامات في أفغانستان، هو صناعة عربية، وإذا كان قد حدثت بعض الكراماتـ والله قادر على كل شيءـ فهذا شيء مختلف تماما عما ذكره عبدالله عزّام في كتابه).
ولم يكن أحد يجرؤ على رفض أو التشكيك في هذه الكرامات، لأن التشكيك فيها تشكيك في الإسلام كله.. وقد حدث شيء من ذلك أيام مقدّمات (العشرية السّوداء)، عندما امتلأت الشوارع الجزائرية بمناضلي وأنصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وظهرت الكرامات (الليزرية) في سماء الملاعب التي يجتمع فيها الأنصار، وقد كتبت على شكل سحب بكلمات، هي التأييد التام للجبهة من الله رب العالمين.. ظهرت الكتابات الليزرية (الله أكبر)، فكنت ترى الجموع مكبرة باكية غائبة ـ مُغيّبة ـ ويا ويل من يشكك في ذلك أو يحاول أن يشرح الكيفية التي كتبت بها تلك الشعارات.. ولكن المؤسف ليس في رد الجماهير المنقادة للإنقاذ، إنما المؤسف هو سكوت نخب وقيادات الجبهة عن تصحيح المفاهيم.. فن (التخدير)، الجماهير تخدّر النخبة، والنخبة تخدّر الجماهير والجميع يخدّر الجميع.
عند قراءة الشّباب العربي، القليل التجربة، الكثير العاطفة، لهذه الكرامات التي ألفها عزّام، كنت تراه يندفع باحثاً عن الطريق الموصل إلى أفغانستان، التي هي في رأيه جهاد حق، والدليل على ذلك هذه الكرامات التي لم يرها حتى الصحابة، مع حالة اليأس التي كانوا يعيشونها في مواطنهم، والفراغ الفكري والمعرفي الرهيب الذي يعيشونه.. وأحدث كتاب (آيات الرّحمان في جهاد الأفغان) الأثر المرجو، وانطلق الشباب إلى أرض الكرامات، لعله يحظى ببعضها فيفوز بالجنة والرضوان.. ولم يكن الشباب المنطلق إلى أفغانستان، في عمومه، مرتزقاً يتقاضى أجراً أو يحصل على متعة، إنّما خرج ليجاهد في سبيل الله، ويحظى بهذه المؤيدات من الكرامات على طريق سيره نحو الله.. وقد قتل بعض الشباب العربي في أفغانستان، بوشاية من الأفغان أنفسهم، أي من خيانة داخل بعض المنظمات الأفغانية ذاتها.. وهم الشباب الذين كانوا يعتقدون أنهم قادمون إلى أرض الملائكة والصحابة.. وكان هذا الاعتقاد مأساة في حدّ ذاته، فلم يستطيعوا أن يستوعبوا حقيقة الأمر، وواقعية البشر.. وكان نتيجة العملية الخطيرة هو تصوّر الشباب العربي القادم إلى أفغانستان بأنهم سيشاهدون بالعين المجردة الملائكة وهم يقاتلون، والقبور تضيء وأنهار المسك والطيور التي تأتي تحت أجنحة الطائرات.. وكانت النتيجة الخطيرة التالية، أن اعتقد الشباب العربي أنه ذاهب إلى المجاهدين الأفغان، الذين سينقلونه إلى عصر ظهور الإسلام، ويلتقون برجال على مستوى الصحابة وفي مصاف الملائكة.. ولهذا كانت الصدمة ثم الصدام.. فقد وجدوا المجاهدين الأفغان بشراً بكل معنى الكلمة، فيهم كل عيوب البشر وحسناتهم.
يقول عصام دراز، في كتابه، إنه تحدث مع مجاهدين تحدث عنهم عبدالله عزّام، وجلست مع آخرين عاشوا في جبهات القتال سنوات طويلة، وكلهم دون استثناء واحد قرروا أن ما جاء في كتاب (آيات الرّحمان) كان ضرباً من المبالغة، وأن بعضهم راجع الدكتور عبدالله عزّام في هذا الأمر، وهناك من ناقشوه وعاتبوه على هذا الكتاب.. بل هناك من اختلف معه بشدة، إلا أن عزّام، وهو أكثر من كان يعرف أن معظم ما كتبه فيه مبالغة ومعظمه لم يحدث أصلاً، يرى أن المبالغة مطلوبة لكي يحبب الناس في الجهاد الأفغاني.. ونجح هذا الشق، وهو تحبيب الناس في الجهاد الأفغاني، وبالتالي دعمه بالمال، ولقد أطلق بعض الشباب المجاهدين على موضوع الكرامات بأنه أعظم فكرة لجمع التبرعات، فهو مشروع مالي ناجح.
إنما الذي حدث في الجيل الثالث من الجهاديين (داعش وأخواتها)، وحتى في أخريات الجيل الثاني (مرحلة أبي مصعب الزرقاوي) أن الجهاد أصبح ارتزاقاً، وقد جُندت ميزانيات ضخمة من جانب بعض الدول العربية لدفع أجور المجاهدين الجدد.. ولمزيد من الإغراء دخل على الخط جهاد المناكحة ابتداءً، والزّواج بالآلاف من الحور العين انتهاءً.. لأن (عبدالله عزّام رقم2) لم يعد موجوداً.
●●●
وتبقى عندي كلمة.. سبق وأن نقلها وزير الخارجية الأسبق، والأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية، أحمد أبوالغيط، عن الرئيس الراحل حسني مبارك، (إللي متغطي بالأمريكان عريان).. نتذكرها جميعاً الآن، ونحن نرى ما يحدث في أفغانستان التي انتصرت فيها حركة طالبان، بعد عشرين سنة من الإطاحة بها على يد تحالف بقيادة الولايات المتحدة.. أما القوات الأفغانية التي أنفقت عليها مليارات الدولارات لتدريبها وتسليحها على مدار سنوات، فكأنها اختفت!.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.