رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل تصبح إثيوبيا بلقانًا جديدة؟

في الوقت الذي شبهت فيه النائبة بمجلس العموم البريطاني، أرمينكا هيليتش، الوضع في إثيوبيا، بما حدث ليوغسلافيا إبان عقد التسعينيات من القرن المنصرم، بعدما ميّز رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد، بين الإثيوبيين المنتمين لعرقية التيجراي وغيرهم في البلاد، واصفًا أطفال إثيوبيا بأنهم (قمح)، وخصومه من التيجراي بـ(الأعشاب التي يجب اقتلاعهم بطريقة لا تجعلها تنمو مرة أخرى أبدًا)، حذر إليكس دي وال، الأكاديمي البريطاني والباحث في سياسات النخبة الإفريقية، في ورقة بحثية حديثة، من انهيار محتمل للدولة في إثيوبيا، لأنه (لا يمكن استبعاد انهيار الدولة في إثيوبيا.. وأن ذلك قد يكون واحدًا من عدة سيناريوهات محتملة.. وقد يحدث قريبًا).
يرى دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية، أن هناك احتمالًا قصير الأمد، بحدوث أزمة في الدولة، لا سيما الاضطرابات في العاصمة أديس أبابا.. وهناك احتمال طويل المدى، يتعلق بما قد يعنيه انهيار الدولة المطول.. لأن الفوضى لها أشكال عديدة.. وتناول في ورقته (تاريخ إثيوبيا وتطور الحكم بها وما صاحبه من ظروف)، السيناريوهات المحتملة.. إذ يرى أن هناك خمسة سيناريوهات متداخلة لهشاشة الدولة أو فشلها أو انهيارها، من بينها (تفكيك الدولة.. انكماش الدولة.. حدوث انقلاب.. تقسيم الدولة.. اختراق الدولة).. ولطالما اعتبر العديد من المواطنين الإثيوبيين، إلى جانب العلماء وصناع القرار، أن الدولة الإثيوبية دولة استثنائية في إفريقيا، وأن لديها الشرعية والمتانة التي تفتقر إليها دول أخرى في القارة السمراء.. ولكن لا ينبغي أن ينخدع الناس بهذه الفكرة ويجب أن يكونوا حذرين.. فهناك أيضًا تاريخ مسكوت عنه، بما في ذلك ضعف الدولة، وتعدد مراكز القوة المتنافسة، وحلقات الهزيمة والهشاشة وحتى الانهيار.
ويشير دي وال إلى مقال نُشر مؤخرًا في مجلة (فورين بوليسي)، للكاتب روبرت كابلان، قال فيه إن إثيوبيا (ببساطة أكبر من أن تنهار).. واعتبر الباحث البريطاني في تعليقه على المقال، أن هذا هو التاريخ السيئ، الأمل وليس الجدل، معتبرًا أنه لا علاقة له بالسياسة. مشيرًا الى أن إثيوبيا قد تكون إمبراطورية ويمكن أن يكون انهيار الإمبراطوريات القائمة على الأرض أمرًا مؤلمًا للغاية.. وإذا كانت إثيوبيا ستتبع أنماطها التاريخية، فيمكن أن تشهد الدولة انكماشًا ـ السلطة المباشرة للحاكم مقصورة على ضواحي العاصمة ودائرة انتخابية أساسية.. أو يمكن رؤية حالة من التفكك، وهو ما يحدث حاليًا.
ويعتبر الكاتب أن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد يعتبر استثناء بين جميع أسلافه.. فهو من الجيل الذي عاش حياته في ظروف سلام داخلي ونمو اقتصادي ثابت.. وقد ورث أبي أحمد العديد من الموارد، بما في ذلك اقتصاد متنام وسمعة طيبة بين المانحين والمؤسسات المالية الدولية ومستثمري القطاع الخاص، والسلام والتعاون مع جميع دول الجوار باستثناء إريتريا، والمؤسسات الأساسية القوية ـ الحزب والجيش والخزانة ووزارة الخارجية.. كما واجه التحدي المتمثل في إعادة تشكيل التسوية السياسية الوطنية لإثيوبيا لتحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان وسياسات الهوية المدنية.. لكن أبي أحمد يفتقر إلى المهارات الحسابية وخلق توازن، والاستشارة وفنون الحكم التي كان يمتلكها أسلافه، معتبرًا- أي الكاتب- أن تطلعاته تفوق بكثير قدراته، ويبدو أنه غير مستعد لإعادة التوازن في مواجهة الصعاب.
في غضون ثلاث سنوات فقط، قام أبي أحمد بتفكيك المؤسسات الموجودة بالفعل التي جعلت إثيوبيا تعمل كدولة، ليس من الواضح ما إذا كان ذلك من خلال تخطيط مسبق، أو ما إذا كان القرار قد أفرزته الظروف في كل حالة ـ كان من الأسهل إبعاد الصعوبات بدلًا من مواجهتها.. إن اتخاذ مسار المقاومة السياسية الأقل في كل مرحلة، هو وصفة لعدم بناء الدولة.. قام آبي بحل الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي (التي كانت في بعض النواحي أقوى من الإدارة المدنية)، وأعاد تشكيل الجيش بطريقة جعلته غير فعال، وقوض وزارة الخارجية مؤخرًا، قائلًا إن المغتربين (وحملتهم على وسائل التواصل الاجتماعي) يقومون بعمل أفضل لتمثيل الدولة.. وقلل آبي من عملية التداول في صنع السياسات.
ويقول دي وال، إنه على مر التاريخ الإثيوبي، فإن القادة ذوي الكاريزما المشابهة لأبي أحمد حشدوا جيوشًا ضخمة وأحيانًا حققوا انتصارات، لكن هذا لم يكن كافيًا لبناء دولة.. النسخة المعاصرة للنظام الإقطاعي الإمبراطوري هي السوق السياسية، حيث يشتري الحاكم ولاءات النخب التابعة عن طريق الدفع النقدي أو الترخيص لاستخراج الموارد أو غيرها من الطرق، مثلما حدث في دول مثل السودان وجنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية.. ويمكن أن تتبع إثيوبيا هذا المسار، لتصبح نوعًا مختلفًا من الدولة الإفريقية الهشة ـ على حد تعبير أحد مستشاري أسياس أفورقي، (زائير في ثوب آخر).. ويواصل دي وال انتقاده لأبي أحمد، واصفًا إياه بالتاجر السياسي، معتبرًا أن أبي يمتلك الكثير من غرائز سياسي المعاملات الذي يوقع الصفقات مع العملاء.
قبل حرب تيجراي، كان يقوم بتسويق الساحة السياسية في إثيوبيا بسرعة.. وفي ظل وجود تاجر سياسي حاذق، قد يكون النظام السياسي المسوق قابلًا للتطبيق، وفي الواقع قد يكون شيئًا ما على هذا المنوال مستقبل البلد.. لكن تجربة الدول الأخرى تشير إلى أن مثل هذا النظام ينبثق عادة عن الفوضى، بدلًا من أن يكون وسيلة لتجنبها.. وألمح الكاتب إلى أنه من الممكن أن تكون الحرب في تيجراي قد بدأت بأهداف سياسية محدودة.. ومع ذلك، أصبحت طبيعة الحرب أكثر خطورة بمجرد دخول جيوش التحالف إلى تيجراي.. يبدو أن نيتهم المشتركة كانت سحق تيجراي، وهو تصعيد في أهداف الحرب لا يمكن تخفيفه بسهولة.. وهنا، استدعى الكاتب تجربة القائد الإثيوبي منجستو هيلا مريام، معتبرًا أن منجستو كان قادرًا على الأمر بإنهاء القتل الجماعي عندما حقق هدفه.. كان بإمكانه التفاوض مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي عام 1989 وتجنب هزيمته التامة.. وبعد مرور عام، كان خياره التفاوضي الوحيد هو الخروج بكرامة ـ وهو ما فشل في القيام به.. وحاليًا لا يظهر أبي أحمد أي ميل للتهدئة، ناهيك عن التفاوض، حتى في مواجهة كارثة عسكرية.. إنه يغذي المشاعر العرقية القومية التي لن يستطيع السيطرة عليها.. ماذا يلوح في الأفق؟
يرى دي وال، أن المؤسسة السياسية الإثيوبية ستواجه في الأيام المقبلة تحديًا سياسيًا وجوديًا، في مواجهة هجوم وحصار يهددان بقاء شعب تيجراي، حيث قلبت قوات التيجراي الطاولة عسكريًا.. فهي لم تهزم قوات الدفاع الوطني الإثيوبية فحسب، بل دمرتها تمامًا. إن النية المعلنة لحكومة تيجراي هي إجبار الحكومة الفيدرالية على التفاوض بشأن النقاط السبع التي أعلنت عنها في الرابع من يوليو.. وإذا فشلت الحكومة الفيدرالية في التفاوض بجدية، فقد تستخدم قوات التيجراي الدفاع عن النفس ذريعتها العسكرية لشن تهديد مضاد لأديس أبابا.. ما لم يكن هناك حل وسط تفاوضي، فهذه بوادر أزمة للحكومة الفيدرالية.. ولم يتقبل أبي وأتباعه المتحمسون بعد حقيقة الكارثة العسكرية الأخيرة، ويأملون أن يتمكنوا من تعبئة الرجال والمواد بسرعة أكبر مما تفعل قوات التيجراي.. ويقوم أبي بالدعوة إلى تعبئة جماهيرية للميليشيات، ويرسل عشرات الآلاف من المجندين إلى الخطوط الأمامية.. وهذا غير مجدٍ.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.