رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«آل الشرايبى».. العصبية العائلية «طريق الثروة»

الحظ مع الغريب.. مَثل شاع فى بر مصر وتردد كثيرًا على لسان أهلها خلال القرن الثامن عشر وما تلاه.. والسر فى ذلك الثراء الواسع الذى كان يحققه الوافدون الفقراء من الشوام والمغاربة حين يستقر بهم المقام فى مصر، وينخرطون فى الأعمال التجارية لتتحول بيوتهم إلى بيوت عز وثراء.

ولهذه المسألة أصل وسبب. فالفارق بين المصرى حين يغترب فى بلاد الله والأجانب حين يغتربون فى بر مصر، أن المصريين فى الخارج لا يبدون من روح التعاون والتآزر، مثلما يبديه أصحاب الجنسيات الأخرى، ومن بينهم المغاربة الذين كانت تنتمى إليهم «عائلة الشرايبى». فقد كان من عاداتهم أن يستقبلوا بالترحاب من يفِد إليهم من المغرب ويحسنوا وفادته فى مصر، ويسجل الدكتور حسام عبدالمعطى، صاحب كتاب «العائلة والثروة»، أن «التاجر المغربى لم يكن عند وصوله إلى مصر لأول مرة يحتاج لكى يبدأ نشاطًا تجاريًا إلا إلى حانوت صغير وغرفة فى إحدى الوكالات فى قلب القاهرة أو الإسكندرية، حيث كان يجد فى أبناء جنسه من المغاربة فى كل مراكز مصر التجارية عونًا له».

كانت تلك حال الخواجة «الشرايبى الكبير» عندما وفد إلى مصر لأول مرة، إذ احتضنه من سبقوه إلى مصر من المغاربة، وتمكن من بناء مجد تجارى وثروة مالية عظيمة. كما احتضن الخواجة فيما بعد كل من وفد إليه من «آل الشرايبى» ليعملوا فى مصر، وتناكح أفراد الأسرة وتناسلوا حتى تمكنوا من بناء مجد تجارى ضخم كان مشدودًا باستمرار برباط «العصب العائلى»، وهو الرباط الذى حرص «بيت الشرايبى» على شد أوصال أفراده به، سواء من يعملون فى القاهرة أم من تحركوا إلى بلاد العرب الأخرى مثل جدة، وكان الأساس فى هذا الرباط هو الزواج، حيث كان من تقاليد الأسرة أن يتزوج أفرادها فيما بينهم، فشبابهم يتزوج من فتيات الأسرة، ولا يتزوجون من غيرها، وكذلك فتياتها.

وتأسيسًا على مبدأ «العصبية العائلية»، وضع «آل الشرايبى» قانونًا فريدًا من نوعه، يشير إليه «محمود الشرقاوى» صاحب كتاب «مصر فى القرن الثامن عشر»، ويؤكد أنه كان يرتكز على اختيار كبير للأسرة توكل إليه إدارة أموالها، ينميها ويستثمرها، ويقوم على حسابها العام كله، فإذا تجمع لديه آخر العام ربح هذه الأموال قام بدفع ما عليهم جميعًا من ضرائب، ثم أعطى كل فرد من أفراد الأسرة، رجلًا أو امرأة، ما يلزمه لكسوة الصيف ثم لكسوة الشتاء، وخصص لكل منهم فى كل شهر مبلغًا من المال ينفق منه على حاجته. وهو يعطى هذه النفقات الشهرية لكل منهم حسبما يرى أنه يكفيه ويستحقه، وهم لا يعترضون، وعندما تبقى فضلة من المال فى نهاية العام، يفرقها عليهم حسب حاجتهم واستحقاقهم.

وقد ذهب صاحب كتاب «مصر فى القرن الثامن عشر» وهو يصف هذه الآلية لإدارة مال وأعمال «آل الشرايبى» مذهبًا عجيبًا حين وصف الأسرة بأنها قدمت نموذجًا مبكرًا للحياة الاشتراكية، وحقيقة الأمر أن المسألة غير ذلك، فالأسرة كانت شديدة الحرص على مالها، وكان هدف كبيرها تدوير أكبر جزء منه فى السوق، بمعنى أن عائلة الشرايبى كانت تفكر تفكيرًا إنتاجيًا بعيدًا أشد البعد عن فكرة الاشتراكية، ولعلك تتفق معى فى أن التفكير التجارى الإنتاجى يعتمد على مبدأ التقليل من «الإنفاق الاستهلاكى» قدر ما يستطيع.

عائلة الشرايبى كانت رأسمالية حتى النخاع، تشهد على ذلك تجربة واحد من أكبر الأسماء فى تاريخها وهو «محمد الدادة الشرايبى» الذى تبوأ موقع شهبندر تجار مصر. فعندما آلت قيادة العائلة إلى «الدادة» اتجه بكل ثقله المالى إلى رهن الالتزامات والمضاربة عليها، بالإضافة إلى الإقراض بالفائدة. 

ونظام الالتزام كان نظامًا عثمانيًا يقوم على منح شخص معين حق جمع الضرائب من منطقة محددة «قرية أو أكثر» بشرط أن يسدد للسلطة المبلغ المطلوب مقدمًا، ثم يجمعه بعد ذلك من الأهالى بطريقته الخاصة، ولم يكن الملتزم بالطبع يكتفى بجمع المبلغ الذى دفعه، بل كان لا بد أن يحقق ربحًا أو مكسبًا يقتنصه من كد وعرق الفلاحين، وقد دأبت الدولة العثمانية على تعيين الملتزمين من بين القادة العسكريين أمراء المماليك، لكن المال الذى امتلكته عائلة الشرايبى كان قادرًا على صنع الأعاجيب كأن تدخل- كأسرة مدنية- إلى لعبة «الالتزام». أما الإقراض بالفائدة فقد توسع فيه «محمد الدادة» كثيرًا، وكان أغلب زبائنه من أمراء المماليك، وتمكن من خلاله أيضًا من مضاعفة ثروة آل الشرايبى عدة أضعاف جعلتها على رأس العائلات التجارية المغربية فى مصر.

ومثل كل العائلات الرأسمالية الكبرى اعتمدت عائلة الشرايبى على تكوين رأى عام مساند لها داخل المجتمع المصرى، فاقتنى أفرادها فى بيوتهم مكتبة واسعة حوت أندر الكتب وأغلاها ثمنًا، وكانت متاحة لمن يريد الاطلاع عليها أو استعارتها، وما أكثر ما كان المستعيرون لا يعيدون الكتب، بل يبيعونها ليد تتناولها ثم تبيعها من جديد إلى آل الشرايبى، بالإضافة إلى ذلك كانت بيوتهم مفتوحة لكل طارق من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ولا يرد عن طعامهم جائع، أو عن مالهم محتاج، كما يحكى «الجبرتى».

كما حرصت الأسرة على تكوين شبكة علاقات واسعة على مستوى المجتمع المصرى ربطتها بمثقفين ووزراء وأمراء وقادة عسكريين، وكان «الجبرتى» نفسه واحدًا من كبار مثقفى عصره الذين ارتبطوا ببيت الشرايبى بعلاقات وطيدة، وكان شديد الاحتفاء بهم فى تاريخه، بدليل أنه سجل تجربة «آل الشرايبى» كاملة وبتوسع دون غيرها من تجارب التجار المغاربة فى مصر.

ولأن لكل بداية نهاية، فقد بدأ منحنى ثراء «آل الشرايبى» فى الهبوط على يد «محمد الدادة» كبيرهم الذى ضاعف ثروتهم، وواصل الهبوط بعد ذلك على يد من ورثوه فى قيادة العائلة. يسجل صاحب كتاب «العائلة والثروة» أن «الدادة» توسع فى الإقراض بشرط وجود الضمانات والرهن لكل من يريد، لكن التوسع فى عمليات الرهن والقروض إلى المماليك أدى فى النهاية إلى تضخم مديونيات الأمراء لآل الشرايبى بصورة واسعة وهو ما كان يهدد بدمار وخراب مالى كبير، وكان بعضهم يعجز عن السداد.

أضف إلى ذلك أن الأجيال التالية من عائلة «الشرايبى» بدءًا من محمد الدادة، أصبحت تميل إلى «الإنفاق الاستهلاكى» فابتنت القصور، وأنفقت الكثير على مظاهر الأبهة والعظمة العائلية، وكان لهذا التحول أثره بعد ذلك فى ضمور حجم الأسرة على خريطة الثروة والمال فبدأت ثروتها فى التآكل وتاريخها فى الاضمحلال، حتى انزوت وأصبحت جزءًا من تاريخ «العاديين» فى الحياة الاقتصادية المصرية، ليتأكد أهالى المحروسة أن الحظ مع من يعمل، بغض النظر عن كونه غريبًا أو قريبًا.