رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حليم».. يعود للحياة

عبدالحليم حافظ، أو العندليب الأسمر، أو «حليم»، ما زال يتربع على القلوب، فلم يستطع مطرب مصرى أو عربى أن يأخذ مكانته على مر التاريخ، ولا أن يحتل مكانه فى قلوبنا رغم مرور ٤٤ عامًا على وفاته. 

وها هو «حليم» يعود إلينا مجسمًا بتكنولوجيا الهولوجرام، وهى أحدث تقنية تصويرية تستطيع أن تسجل الضوء المبعثر من كائن ما، ثم تعيد تكوين الصورة مجسمة أمامنا.

«حليم» كان حاضرًا بيننا بالتكنولوجيا الحديثة و«حليم» أيضًا ما زال يعيش بيننا كأنه لم يرحل عن دنيانا بصوته وموسيقاه وأغانيه، هو مطرب خلده التاريخ، باعتباره قمة فى الغناء العربى، أما المدهش فى حفل «حليم» بتكنولوجيا الهولوجرام، الذى أسعدنى حضوره مع جمهور غفير من محبيه منذ أيام قليلة مضت بمول العرب- فهو أننى رأيت طوابير من الشباب من الجنسين، لديهم شغف به، ورغبة فى سماع صوته وأغانيه الرائعة فى حفل على المسرح.

فهى أغانٍ عاشت فى وجداننا نحن الذين عاصرنا وجوده قبل وفاته عندما كنا صغارًا، وعرفنا وأدركنا قيمته كمطرب مصرى عربى على مستوى عالمى، نفتخر به حتى الآن وقبل ظهور تيار من المغنين الجدد وأشباه المغنين الذين ملأوا الساحة الفنية، لكن لم يستطع أحد منهم أن يأخذ منه عرش الغناء.

ووفقًا لما شاهدته من إقبال غفير على حفلاته يومى ١٧ و١٨ يونيو، ما دعا منظمى الحفل لأن يقيموا حفلًا إضافيًا بناءً على رغبة الجمهور، جعلنى أؤكد أن «حليم» ما زال هو ملك الأغنية العاطفية، والوطنية أيضًا، فحتى اليوم، لم يتمكن مطرب عربى آخر من أن يخلد اسمه مثل عبدالحليم ولا أن يتربع على قمة الغناء العربى طوال ٧٠ عامًا ولا يزال الشغف به مستمرًا حتى يومنا هذا ولما بعد ذلك.. إننا ما زلنا نحفظ أغانيه الرومانسية عن ظهر قلب وندندنها فى أى وقت وفى كل المناسبات، وما زلنا نشاهد أفلامه الناجحة، ورغم أننا نحفظ أحداثها عن ظهر قلب فإننا لا نمل من مشاهدتها مهما مر الزمان.. فمن منا لم يشاهد أفلام «الوسادة الخالية» أو «شارع الحب» أو «معبودة الجماهير» أو «أبى فوق الشجرة» أو «يوم من عمرى» أو «لحن الوفاء» أو «حكاية حب» أو «البنات والصيف» أو «أيامنا الحلوة» أو «الخطايا»؟ بل حتى الأجيال الشابة من الفنانين يحبون حليم ويتعلقون بأغانيه، ففى حفل زفاف فنى مختلف ومبهج أسعدنى حضوره للعريسين الفنان الشاب محمد فراج والفنانة الصاعدة بسنت شوقى فى حديقة شاسعة بمدينة «الرحاب» كانت زفة العروسين من خلال اقتباس مشهد من فيلم «معبودة الجماهير» لعبدالحليم حافظ وشادية، حيث دخل العروسان إلى الحديقة قبل إتمام «كتب الكتاب» بعجلة يقودها محمد ومعه بسنت مثلما فعل عبدالحليم وشادية فى مشهد من مشاهد فيلمهما الشهير الذى نال نجاحًا كبيرًا لدى عرضه، وما زال.. ما يعكس تأثير أفلام وأغانٍ ومشاهد عرفها الجمهور وأحبها لعبدالحليم حافظ.. أما أغانى معظم الفنانين والمؤدين والمطربين فإنها أغانٍ موسمية يتم نسيان كلماتها مع نهاية الموسم.

أما أغانى عبدالحليم فقد امتدت بعد وفاته، حيث كان يرددها الشباب والشابات مساءً فى حفل الهولوجرام، كما رددها كل الحاضرين معًا فى هذا الحفل وكانوا يصفقون مع انتهاء كل أغنية، وكأنّ عبدالحليم أمامنا على المسرح ليلتها بنفسه، ورغم أننا نعرف جميعًا أنها تكنولوجيا حديثة، وأن «حليم» الذى ظهر مجسمًا أمامنا ويتحرك ويغنى ليطربنا هو نتيجة التكنولوجيا الحديثة فإننا عشنا ساعة طرب ناجحة مع أغانيه وكأنه لا يزال حاضرًا بصوته العذب الحنون. 

إن هذا الحفل التكنولوجى الهولوجرامى قد جعلنى أعود بذاكرتى إلى حفل ساهر كبير وناجح حضرته لـ«حليم» على مسرح سينما ريفولى مع والدتى حينما كنت صغيرة وهو حفل ما زلت أتذكره حتى اليوم، وكأنه بالأمس فقط وهو من أجمل ما حضرت من حفلات موسيقية حية فى حياتى رغم أننى حضرت عشرات الحفلات الموسيقية والفنية لفنانين مصريين وعالميين، إلا أن عبدالحليم حافظ يظل فى نظرى قمة الغناء العاطفى بإحساسه العالى بالكلمة وبما يعبر به من كلمات يتغنى بها من قلبه فتصل إلى القلب مباشرة.. فقد غنى للحب والخيانة والشغف والفرح والنجاح والوهم والعلاقة بين الرجل والمرأة برقى وبكلمات منتقاة لأشهر المؤلفين وملحنة من جانب أشهر ملحنى عصره، ومن شدة الإقبال الجماهيرى تقرر إقامة حفل إضافى لـ«حليم» بالهولوجرام بعد غدٍ الجمعة.

وبمناسبة عيد ميلاده الذى يعود إلى ٢١ يونيو ١٩٢٩، وتوفى فى ٣٠ مارس ١٩٧٧.. فإنه ما زال ملك الأغنية الرومانسية بل الأغنية الوطنية أيضًا وما زالت أغانيه الوطنية التى واكبت الأحداث الكبرى فى وطننا يصدح بها المطربون من الأجيال التى جاءت بعده، عاش عبدالحليم المولود- فى قرية الحلوات بمحافظة الشرقية واسمه الأصلى عبدالحليم على شبانة- حياة فيها مزيج من النجاح والعذاب. وكانت رحلة حياته قصيرة لكنها شاقة بسبب إصابته بداء البلهارسيا منذ صغره.. وبين مولده ووفاته فى مدينة لندن عن ٤٧ عامًا، حيث تُوفى بسبب الدم الملوث الذى نقل إليه حاملًا معه التهاب فيروسى «فيروس سى» الذى تعذر علاجه مع وجود تليف فى الكبد ناتج عن إصابته بالبلهارسيا منذ صغره.. كما أنه من الضرورى أن أضيف للقارئ أننى لن أنسى أبدًا مشهد جنازته المهيبة، حيث ملأت الجماهير الشوارع بالملايين، حيث ساد فى مصر حزن عارم، ولم نرَ هذه الجنازة المهيبة فى مصر إلا فى جنازة كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم وجنازة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وبلغ عدد المشاركين عن حب فى جنازة عبدالحليم وتقديرًا له أكثر من ٢٫٥ مليون مشارك.

كما انتحر بعض الفتيات أثناء تشييع جنازته حزنًا وكمدًا على رحيله.. ولا بد أن أذكر أرقامًا مهمة فى مسيرته، حيث بلغ عدد أغانيه ٢٥٠ أغنية.. كما حصل على عدة ألقاب، من أشهرها «العندليب الأسمر» و«مطرب الحب» و«مطرب الثورة والشعب»، وله أغانٍ عاطفية أحدثت تطويرًا فى الغناء العربى مثل «أهواك» و«أحبك» و«قولوله» و«جبار» و«إنى أتنفس تحت الماء» و«تلومونى ليه»، ومنها أغنيات وطنية يرددها المطربون العرب حتى اليوم بهدف تأجيج المشاعر الوطنية بالقضايا العربية المهمة مثل أغانى: «أحلف بسماها وبترابها» التى غناها احتفالًا بتحرير سيناء و«البندقية اتكلمت» و«مطالب شعب» و«فدائى» و«بالأحضان» و«حكاية شعب» و«عاش اللى قال».

ومن الضرورى أن أقول أيضًا إنه من ذكاء عبدالحليم أنه تعاون مع كبار الملحنين ومؤلفى الأغانى فى عصره، كما تغنى بقصائد نالت نجاحًا ساحقًا مثل أغنية «قارئة الفنجان» للشاعر اللبنانى الكبير نزار قبانى. 

كما قام عبدالحليم ببطولة عدة أفلام شهيرة مع قمم النجوم والنجمات فى عصره.. فاتن حمامة وشادية وسعاد حسنى وإيمان وماجدة وعمر الشريف وأحمد رمزى وحسين رياض وعبدالسلام النابلسى وصباح وزينات صدقى، وغيرهم وغيرهم كثيرون.. وتحوّل بكل ما قدمه فنيًا إلى نجم ساطع فى دنيا الفن العربى تعلق به الجماهير وليس فقط مطربًا شهيرًا. 

رحل عبدالحليم بجسده وأعاده لنا الهولوجرام بفنه الخالد الراقى الذى يلمس القلب ويرتقى بالمشاعر الإنسانية، رحم الله عبدالحليم فى ذكرى وفاته الـ٤٤ وأعاننا على أصوات كثيرة تملأ الساحة دون أن تمس المشاعر أو الأحاسيس فى الأعماق وننسى أغانيها بعد انتهاء الأغنية.. فما زال عبدالحليم جالسًا على القمة بفنه الخالد والراقى والقادم من أعماق القلب.