رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين الواقع والشريعة: الوقائع الكاملة للحلقة المفقودة في قضية ميراث المرأة

قضية ميراث المرأة
قضية ميراث المرأة

• رجال رفعوا شعار "إكرام الميراث أكله".. ونساء: "لو أهالينا موجودين كانوا ماتوا مرتين" 
• ثغرات قانونية تسمح بالاستيلاء على الحقوق وإجراءات طويلة للوصول إلى الحقائق
•• الشرع: 30 صورة لميراث المرأة في الإسلام و4 حالات ترث فيها المرأة على النصف من الرجل

على الرغم من أن قضية ميراث المرأة ما زالت إشكالية كبرى تتجدد مع كل من يفتح أى نافذة لمناقشتها ونقدها أو حتى الإشارة إليها، لا سيما بين ما يتم فعله الكثيرون فى الواقع وبين ما جاء فى الشريعة الإسلامية، وبين الواقع والشريعة حقوق كثيرة تضيع وجرائم عديدة ترتكب، على الرغم من أن النصوص الدينية واضحة وضوح الشمس ولو كان بيده لنطقت وتحدثت إلى من اعتادروا وتوارثوا أكل حقوق المرأة، لكنها تحتاج لرءوس علمية تفسر بلطف دون بتر أو زيادة.

الحلقة المفقودة بين الواقع والشرع تعددت أسبابها من واقع العديد من البحوث ربما كان سببه الدعاة الجدد، وآخرون يتمسكون بالتراث كأنه إرث ممنوع الاقتراب منه أو التصوير، وآخرين من فعل البشر أنفسهم وصراعاتهم الدنيوية، وقانون يرممه المتخصصون أحياناً ويتحايل عليه البعض كثيرًا.

ربما تكون الأرقام معبرة للغاية عن الوضع الحقيقي لميراث المرأة على أرض الواقع، فطبقاً للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تنظر المحاكم سنوياً 144 قضية تنازل عن الميراث، 95% من النساء والفتيات يحرمن من الميراث بمحافظتي قنا وسوهاج، 10% من النساء فى الصعيد هن فقط من يحصلن على ميراثهن الشرعي، لذا تخوض "الدستور" بحثاً معمقاً بين واقع ميراث النساء والمحاولات البشرية فى التعامل معه وبين الشريعة وتفسيراتها وتأويلاتها لهذا الأمر، وذلك إضافة إلى الظواهر الجديدة التي طفت على السطح للمطالبة بالمساواة فى الميراث بين الرجال والنساء بلا تفرقة.

بداية الخيط الذى تتبعناه للنهاية فى محاولة لتفسير الإشكالية ربما يكون من القانون التى تحاول وتعمل الدولة فى الفترة الحالية على إنفاذه بشدة وحزم وإنسانية، فعلى الرغم من التعديلات التي أدخلت على القانون رقم 77 لسنة 1943 بشأن الميراث، فالأعراف السائدة ما زالت تحكم عدد من المناطق.


نص التعديل الأخير على "قانون المواريث" على أنه "مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشدّ ينص عليها قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه ولا تتجاوز 100 ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من امتنع عمدا عن تسليم أحد الورثة نصيبه الشرعي من الميراث رضاء أو قضاء نهائياً، ويعاقب كل من حجب سنداً يؤكد نصيباً للوارث أو امتنع عن تسليم ذلك السند حال طلبه من أي من الورثة الشرعيين أو أي جهة مختصة.

بحسب الفقهاء وأهل العلم الدارسين له الذين تحدثوا لـ"الدستور" يتضح أن هناك ما يزيد على 30 صورة لميراث المرأة في الإسلام، منها 4 حالات ترث فيها المرأة على النصف من الرجل، فيما تكمن الحكمة من التفاوت الذى أشارت إليه الآية القرآنية: "للذكر مثل حظ الأنثيين" وهو ما ذكره العلماء، لأن الرجل مطالب شرعًا بالإنفاق على أسرته بما فيها الزوجة والأبناء، وأيضًا مطالب بالانفاق على أبيه وأمه إن كانوا فقراء، ولا يعتبر هذا الانفاق من باب الصدقة أو الزكاة، لأن الإسلام لا يجيز دفع الزكاة من الأصل للفرع ولا الفرع للأصل.
 

وحسب أهل العلم، يتحمل الرجل في هذا الجانب مسؤولية كبيرة لا تتحملها المرأة، ومن ثم كان التفاوت في مثل هذه الحالات الأربعة، فضلا عن إلزام الرجل بأن يوفر مسكنا ملائمًا لزوجته وأسرته، وينفق على إعاشتهم وتعليمهم وإرضاعهم، وتربيتهم. 

لا شك أن الإسلام أبطل الكثير من المُمارسات الجائرة في حق المرأة، لا سيما أن العرب كانت تعتبر المرأة نفسها جزءت من تركة المتوفى، ومن حقهم أن يرثوها، ولذا قال القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ)، والمستقرأ لآيات الذكر الحكيم، والدارس لنظام الميراث في الإسلام، سوف يعلم أن هناك فلسفة  ينبني عليها توزيع الأنصبة في الميراث، وهذه الفلسفة لا تمت للفصل بين الجنسين من ذكورة أو أنوثة من قريب أو بعيد.

الفلسفة السابقة  تقوم على 3 معايير منضبطة، أولها هو درجة القرابة بين الوارث والمورث فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب فى الميراث وكلما ابتعدت القرابة قل النصيب، وثانيها موقع الجيل الوارث من التتابع الزمنى للأجيال بمعنى أن الجيل الذى يستقبل الحياة عادة يكون نصيبه أكبر من الجيل أو الأجيال التى تستدبر الحياة بغض النظر عن الأنوثة أو الذكورة فبنت المتوفى مثلا ترث أكثر من أمه وهم أناث، بينما ترث البنت أكثر من الأب ولو كانت رضيعة حتى لو كان الأب هو مصدر الثروة للابن التى تنفرد البنت بنصفها، والابن يرث أكثر من الأب وكلاهما من الذكور فعليه يتضح أنه لا دخل لمسألة الذكورة والأنوثة بالموضوع اطلاقا. 
 

فيما يخص المعيار الثالث الذي اختص بالعبء المالى الذى يوجب الشرع الإسلامى على الوارث تحمله والقيام به تجاه الآخرين وهذا هو المعيار الوحيد الذى يثمر تفاوتا بين الذكر والأنثى ولذلك لم يعمم القرآن هذا التفاوت بين الذكر والأنثى فى عموم الوارثين وإنما حصره فى حالات معينة.

أغلب النساء يفضلن الصمت بدلاً من الدخول فى منازعات مع أشقائهن وقطيعة صلة الرحم، بينما تلجأ قلة من النساء إلى القضاء للحصول على نصيبهن من الميرات مما يتسبب في إراقة الدماء أحيانا.


ميراث المرأة في الصعيد لا تحصل عليه إلا قلة من النساء، وذلك بعد تدخولات عدة من الوسطاء العقلاء، ويتم تيسير الأمر في النهاية بأخذ جزء بسيط من حقها ويكون عن طريق التراضي بينها وبين أشقائها، ويسمى هذا العرف السائد في المجتمع الصعيد "الرضوى" أو "التراضية" كما يحدث في المجتمع الريفي.
 

حياة السيد ابراهيم 55 عاماً، واحدة ممن يمكن وصف حالاتهن بالمأكول حقوقهن، والتى بدأت حياتها تنقلب رأساً على عقب منذ أن تلقت خبر وفاة والدتها المسنة من شقيقها الأكبر محمود بأحد الأيام، لتتفاجأ بعد ذلك أن ما ينتظرها من ألم لا يقل عن ألم فقدانها لأمها سر حياتها كثيراً، إذ تابعت دائرة التصارع الذي وجدته بينها وبين أشقائها الذكور على الميراث، والذي فيه كان همهم الأوحد هو الاستيلاء على نصيب حياة وشقيقاتها الإناث الاثنتين، بميراث والدتهما في قطعة أرض زراعية كبيرة.
 

تقول حياة لـ"الدستور": "ماكنتش مصدقة نفسي وإخواتي الرجالة بيقولونا انتو مش حاتخدوا حاجة من الأرض.. انتو عندكم رجالتكم تصرف عليكم"، لافتة إلى أن دموعها قد خانتها وهى تشاهد شجارات لا جدوى منها بين أشقائها الذكور الذين استوليا على ميراث أخواتهن، وبين شقيقتيها اللاتي وصفتهن أنهن لا حيلة لهن وقتها سوى إظهار الاعتراض بارتفاع نبرة الصوت قليلاً على الاشقاء الذكور الأقوياء لينتهي من بعده الصمت، استسلاماً لظلم.


حياة تصف صمتها وصمت شقيقتيها أمام ظلم أشقائهم باستيلائهم على حقوقهن في الميراث بأنه لم يكن ضعفاً بقدر ما كان، تقديراً لمكانة معنى الأخوة وخوفًا على أنه حال اتخاذ اجراءات قانونية صد اشقائهم الذكور سيؤرق بذلك أمهما في مدفنها-على حد قولها"لو كانت امنا عايشة وشافت اللي حصل بينا كانت ماتت مرة تانية من الحزن"-تقولها حياة موضحةأنها لذلك استسلمت للأمر ولم تقطع صلة الرحم بينها وبينهم إلى الآن، ولكنها فوضت أمرها إلى الله فهو وحده كفيلاً أن يعطيها وشقيقتيها حقوقهن فو العالم كم ظلموا على يد أشقائهم.

حالة حياة وشقيقتيها ليست هي الحالة الوحيدة بصعيد مصر، لنساء ضاع حقوقهن في الإرث قهراً وظلماً على يد ذويهم من الذكور، بحجة أن المرأة في الصعيد لا ترث شيئاً، وأن الرجل هو من يتولى المسئولية فيما بعد بينما المرأة حسب ما يدعي بعض أهل الصعيد،  لها زوجها الذي ينفق عليها ومعه لا تحتاج للحصول على حقاً في الميراث.

على عكس حياة لجأت زينب أحمد 27عاماً، بمحافظة بني سويف  إلى القضاء للفصل بينها وبين شقيقها محمد، بعد أن حرمها من حقها في ميراث أبيها، متحججاً بأنها فتاة ولا حق لها فيه، فهي كما ادعى ستتزوج من رجل غريب سيكون له الحق في أخذ ما تملك، لذا رأت زينب أنها وإن استسلمت لظلم أخيها فهي بذلك ستمنح الفرصة لغيره من الظالمين وآكلين الإرث، أن يطغوا وينهبوا حقوق أشقائهم،  بحجج لا أنزل الله بها من سلطان، وذلك دون وجود رادع لهم.

"عز علي إني أرفع قضية على أخويا وأقف قدامه في المحاكم، بس هو اللي بدأ و واكل حقي"، تقولها زينب موضحة أنها إلى الآن ما زالت قضيتها على شقيقها تنظر في المحكمة، وقد بشرها وكيلها المحام بأنها ستكسبها دون شك.
 

تتابع زينب أنه لهذه الخلافات الكبيرة بينها وبين شقيقها والتي وصلت حدتها إلى الأمر الذي جعل أخيها يمنع أطفاله عنها بعد أن كانوا متعلقين بها منذ ولادتهم، "كان روحي في أولاده ولكن منعهم عني بسبب الورث"-تقولها زينب في حسرة على خسارة الأشقاء، والرحم جميعاً بسبب حق أحله الله.

"فتحية حسنين"هذه السيدة الصعيدية،لم تكن قصتها مثل سابقيها مع أشقائها بل كانت مع خالها الذي عمد إلى بيع إرثها وشقيقاتها عن أمهما دون علمهما، وهو عبارة عن منزل في قريتهم التي تعيش بها، فهم لم يدروا بالأمر إلا بعد أن تمت عملية البيع دون أن يقدموا هي وشقيقتيها الثلاث أي تنازل عن ميراث والدتهما لخالهما" هو قرر من نفسه يبيع البيت من غير ما ياخد إذن مننا"-تقولها فتحية

لم يكتفِ الخال بذلك حسب رواية فتحية، بل تطور الأمر معه حين طالبته بالميراث الذي باعه دون الرجوع إليهم، “ضربني وأهني بألفاظ أخجل من فكرة تذكرها”.


ولإكمال خطته في أكل مال اليتيم عمد الخال حسبما أوضحت فتحية إلى تزوير أوراق تثبت أنه وحيد رغم أن لديه 5 أشقاء، مما جعلها تقيم دعوى قضائية ضده "رفعت قضية، في نوفمبر 2019، حيازة للبيت علشان اثبت إنه حقي، واضطريت أقعد فيه 7 شهور"، وكانت المحاكمة في صفها بحبسه 3 شهور و10 آلاف جنيه غرامة-بحسب القانون رقم 77 لسنة 1943 قبل تعديله في 2017.


التفسير الاجتماعي
تشير الدكتورة ياسمين محمود أستاذ علم الاجتماع فى حديثها لـ"الدستور" أنه في مصر وعلى الرغم من اتباع دستورها على الشريعة الاسلامية في كافة التعاملاتن إلا أنه مازال في الصعيد ومناطق أخرى لا يتم تطبيق الشريعة لأنه لو تم تطبيقها ستصبح المرأة ذات قوة اقتصادية وحينها يعتقد الرجل الصعيدي أنه فقد سيطرته عليها، وهي ثقافة ذكورية تزيد في النجوع والقرى الريفية، بسبب مقاومته العنيفة لتغيير الموروث، ويساعد رجال الصعيد في ذلك موروثهم أنه يجب ألا يذهب ميراثهم لرجل غريب فيما بعد، وهو زوج الابنة، إضافة لذلك ضعف المرأة في هذه الأماكن وقلة حيلتها.
ولفتت الدكتورة ياسمين إلى أن كثيراً من هؤلاء النساء لا يلجأن للمطالبة بإرثهم، لأنهن يتعرضن بسبب ذلك إلى الحبس والتعنيف والضرب.

إلى ذلك، أكد أشرف عبد الخالق، مدير مركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية على أن النص القانوني الذي يجرم الامتناع عن إعطاء المواريث تم إقراره منذ عام 1943 من خلال المادة رقم 49 من القانون 77 لسنة 1943، والذي تم تعديله بصدور القانون رقم 219 لسنة 2017، مشيراً إلى ثغرة وصفها بـ"الخطيرة" يستغلها الكثيرون للاستيلاء على الميراث بشكل كامل.


أضاف عبدالخالق، لـ"الدستور" أن الرجال يستندون إليها لحرمان آخرين من هذا الميراث، وهي إشكالية "شيوع الإرث وعدم وجود فرز وتجنيب"، وبالتالي يصبح معه حصة الميراث غير محددة لكل فرد بعينه من الورثة، والتي تحتاج إلى إجراءات تقاضي كبيرة لتحديد هذه الحصة لكل فرد بعينه داخل الميراث كما تحتاج إلى تكلفة كبيرة من رسوم تقاضي وخلافه حتى يحصل بالنهاية كل وريث على حقه.
مدير مركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية، أضاف  أن هذه الثغرة تتسبب في عدم حصول العديد من النساء على حقوقهن في الميراث خاصة في الصعيد على الرغم من وجود عقود ملكية تثبت أحقيتهن به مثل أشقائها الذكور، وهنا يدعو إلى ضرورة تسهيل المشرع إجراءات حصول الورثة على حقوقهم بقضايا الإرث دون اللجوء لدعاوي حصص الفرز والتجنيب باهظة التكاليف، والتي تتسبب في عدم حصول الكثيرين على حقوقهم خاصة النساء.


انفصال بين الواقع والشريعة
يوضح الدكتور أحمد البصيلي، أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر، أن هناك انفصاما واضحا وصداما بين عدالة التشريع الإسلامي في قضية ميراث المرأة، وبين العادات والتقاليد الجاهلية التي تحكم بعض المجتمعات في واقعنا المعيش، مما ينم عن معاندة كبيرة بين طغيان البشر وسلطان القدر، وكأن البعض بجهله وبخله يريد أن يعدَل في القوانين الأبدية التي سنها الله من أجل إنصاف الأنثى أيا كان موقعها في الحياة.


وأكد استاذ الشريعة أنه لا سبيل إلى إصلاح وتغيير هذا الواقع المأزوم إلا بشيئين، الأول: معرفة أحكام الشرع والوقوف على مراد الله منها، والأمر الآخر تطبيقها والتسليم بها والإذعان لها، لأن لا خير إلا في امتثالها، وما عداها شر محض بلا شك وبقية من جاهلية القرون الأولى، وصفوة القول أن الإسلام يدعم المرأة على جميع المستويات ماديا ومعنويا.