رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خبز أحلام.. والزمن المقبل


لا نستطيع الحديث عن حرية أو دستور أو اختيار أو موقف أو تنوير أو حتى وطنية ونحن مقيدون بسلاسل الأمية. وإذا نظرنا إلى إمكانيات وزارة الثقافة سنجد أن بوسعها القيام ولو بخطوات صغيرة على الطريق يمكنها أن تعقد مؤتمراً للمثقفين حول قضية محو الأمية ودورهم فى ذلك. بدلاً من الحديث عن «مستقبل الأدب» أو بجوار الحديث عن الأدب

تشتعل شموع الأمانى التى لم تتحقق مع مطلع العام الجديد. يهتز ضوؤها كارتجافة شفاه تبتهل للزمن المقبل أن يكون شمساً، ونسيماً، وبحراً تجرى عليه مراكب أحلامنا بيسر. أحلام صغيرة، مثل حلمى الذى لم يفارقنى أن يكون عندى كوخ على نهر يمنحنى الشعور بأنى نصف سمكة نصف إنسان أسبح فى الكون الشاسع وأعود إلى الأرض. لكن هل أننا نبحث عن السعادة وهى كما قال تولستوى قريبة منا «كما نبحث عن النظارة وهى فوق عيوننا»؟. ربما يكون تولستوى على حق. ربما يكفى الإنسان امتلاء شعوره من الحياة والصحة. إلا أن الإنسان مهما أطعمته لا يشبع من خبز الأحلام المعجون بسحر الخيال، إنه يمد يديه بنهم إلى أحلام أبعد من سعادته الذاتية وأكبر من بيت على نهر أو زوجة لطيفة وأطفال جميلين. بعض تلك الأحلام الكبيرة يتحقق، بعضها لا يرى النور، يجف فى الروح كما تجف زهرة مضغوطة بين أوراق كتاب. من أحلامى تلك أن أرى الشعب المصرى العظيم وقد تخلص من الأمية. أن أشهد يوما أبصر فيه كتابا بيد كل مواطن، بطاقة دخول إلى المسرح فى جيبه، فكرة نيرة فى عقله، شعوراً بحب الآخرين فى قلبه، منزلاً وتعليماً ولاجاً وحرية، بعد ذلك فليؤمن كل إنسان بما يشاء كما يشاء عن علم وكرامة واستنارة. معظم تلك الأحلام مستحيلة التحقق من دون محو الأمية، مطلب النهضة الذى انقضى عليه نحو مئتى عام منذ أن كتب محمد على رسالة إلى ابنه إبراهيم باشا سنة 1833 يقول له «إن محاولة النهضة لا تبدأ بتزويد الشعب بالكتنيات أو البنطلونات الضيقة، وبدلاً من البدء بالملابس كان الأجدر بالباب العالى أن يهتم أولاً بتنوير الأذهان»! مازلنا بعد مئتى عام إزاء المعضلة ذاتها «تنوير الأذهان»! فهل يقبل علينا العام الجديد حاملاً بيده خطة قومية لمحو الأمية وإعلان آلية ومراحل تنفيذها؟

إننا لا نستطيع الحديث عن حرية أو دستور أو اختيار أو موقف أو تنوير أو حتى وطنية ونحن مقيدون بسلاسل الأمية. وإذا نظرنا إلى إمكانيات وزارة الثقافة سنجد أن بوسعها القيام ولو بخطوات صغيرة على الطريق. يمكنها أن تعقد مؤتمراً للمثقفين حول قضية محو الأمية ودورهم فى ذلك. بدلاً من الحديث عن «مستقبل الأدب» أو بجوار الحديث عن الأدب. يمكنها أن تعيد إلى الميادين أكشاك الموسيقى التى ظهرت فى زمن ما واختفت. يمكنها أن تنفخ الحياة فى أطلال قصور الثقافة وأن توجه تلك القصور إلى الشوارع والأحياء الشعبية بشاشات عرض وفرق موسيقية وشعراء ومنشدين بدلاً من الموت داخل حجرات البيروقراطية المتربة. ليس لنا قلب شاعر كبير مثل صلاح جاهين لنحلم لمصر بـ «تماثيل رخام ع الترعة وأوبرا»، لكن ألا يمكننا أن نحلم بمحو الأمية؟! وإذا لم تضع الحكومة خطة لمحو الأمية، فلماذا لا يقوم المثقفون والأحزاب التقدمية بطرح المشروع وتبنيه ودفعه إلى حيز الواقع بحشد أكبر عدد ممكن من الطلاب والمتعلمين فى كل الأحياء حول الفكرة؟ لماذا يقتصر عمل المثقفين على كتابة الروايات؟! أليست إعادة كتابة الواقع عملا إبداعياً؟! ألا يستطيع المثقفون الذين اعتصموا بوزارة الثقافة لتنحية وزير أن يعقدوا مؤتمراً يعلنون فيه خطة لمحو الأمية؟ ألا يستطيعون الاعتصام حتى تنحية الجهل؟.

أفتح كتاب الروح مع مطلع العام الجديد، فتتمايل نحوى شوقاً إلى الحياة زهرة كادت أن تجف.

■ كاتب وأديب