رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: «الشوطة» تأكل العباد

محمود خليل
محمود خليل

كان العجب والحيرة يأكلان «آدم الصغير»، وهو يسمع كلام جده «آدم الكبير». لم يعرفه إلا من خلال الصورة التى وضعها الأب فى درج مكتبه. كان أكثر ما يلفت نظر الشاب إليه نظرته الوادعة وقسمات وجهه التى تفيض بالرضا.. دارت رأسه فجأة فأحس بأن جده اختفى.. شعر بضيق فى التنفس.. فإذا بصوت أمه يعاتبه على الإفراط فى التدخين.. تنهد بعمق فوجد جده لم يزل واقفًا أمامه باسمًا فبادله الابتسام ثم قال له:

■ الشاب: كلامك يا جدى يشبه الألغاز.. وأنا من جيل يريد كلامًا يمشى على الأرض وليس يطير فى السماء.. ماذا تعنى بـ: بين بين؟

■ الشيخ: سأشرح لك بالطريقة التى تحبها:

أشار الجد بإصبعه فظهرت شاشة أشبه بشاشة الموبايل. فجأة ظهر فيها شخص شاب وجهه أبيض يميل إلى الحمرة، يرتدى جلبابًا وطربوشًا قصيرًا، يشبه الطرابيش التى يرتديها المغاربة كما رآها فى بعض الأفلام.. يظهر الشاب بين مجموعة من الأجانب يتحدث معهم الفرنسية بطلاقة.. سأل آدم الصغير:

■ الشاب: مَن هذا يا جدى؟

■ الشيخ: إنه جدى أنا حسن الترجمان.. أصل وجودنا العائلى.. جدك «الترجمان» مغربى الأصل كان يصحب أباه فى الحج عام ١٧٩١.. وبعد أن أدى الاثنان الفريضة عادا إلى المحروسة، حيث مرض الأب، ومات، وشاء الله أن يحتضنه تراب القاهرة.. كان العام عام وباء.. وكان الطاعون يحصد الأرواح ويلعب بالأجساد كما شاء.. انظر:

«القاهرة عام ١٧٩١.. الناس يسيرون فى الشوارع حائرين.. يرتدون جلابيب بسيطة تنطق بالبؤس.. الوجوه قلقة.. والأعين غائرة من فرط التعب والإجهاد.. مجموعة تسير فى جنازة حتى تصل إلى المسجد.. يصرخ فيهم رجل واقف على باب المسجد ويطلب منهم الانتظار لحين الانتهاء من الصلاة على الجثث المتراصة داخل المسجد.. يظهر أحد الأهالى وهو يسقط فجأة على الأرض.. والناس تجرى بعيدًا عنه وهم يرددون: «مطعون.. مطعون».. زحام يظهر على أحد بائعى الخبز.. تصرخ امرأة «أريد بنصف فضة عيش».. يجرها أحد الرجال بعيدًا ثم يقفز مكانها ويصرخ «بثلاثة أنصاف فضة عيش».

يستطرد الجد قائلًا: كانت الناس تتقاتل على رغيف العيش.. بينما يقتلهم الطاعون.. وينهش أجسادهم بلا شفقة.. الوباء والغلاء لا يعرفان الرحمة.. حسن الترجمان كان مستورًا، ويملك ثمن رغيف العيش والغموس وإيجار البيت، لكنه لم يكن يملك دفع الطاعون عن أبيه.. سقط الرجل الكبير مطعونًا فى القاهرة، وأحس حسن بأن الله تعالى شاء أن تكون النهاية فوق هذه الأرض.. «وما تدرى نفس بأى أرض تموت».. كما أن الإنسان لا يدرى مكان خبزه ورزقه.

مات الأب فقرر حسن الترجمان أن ينسى الأرض التى جاء منها. قال لنفسه «المغرب لم تعد بلدى ولا أرضى.. بلدى وأرضى حيث ترقد عظام أبى».. ثم دفن أباه بإحدى المقابر المجاورة للسيدة نفيسة، واختار لنفسه مسكنًا لا يبتعد عنها كثيرًا. وبدأ يواجه أقداره فى بر مصر. 

عمل فى تجارة البخور والعطور التى كان يعمل بها والده فى المغرب، لكن الرزق كان شحيحًا، لم يكن أغلب المحيطين بدكانه بإحدى العطفات المتفرعة من ميدان الرميلة يملكون ترف استعمال العطور.. وهم الذين لا يجدون ماء للاستحمام.. والبخور لا يحقق الربح الذى يقنع صاحبه.. ظلت الدنيا تصعد وتهبط بحسن على أرجوحتها سبع سنين لتبدأ فصول رحلته الحقيقية. 

إنها يا ولدى رحلة الحياة التى يكدح الإنسان فيها بحثًا عن الموت.