رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النيل.. قراءة فى كتاب مهم «1»


احتدم الصراع السياسى الدبلوماسى الإعلامى، حتى الآن، بين مصر والسودان، من جانب، ونظام الحكم الإثيوبى من جانب آخر، حول حق الطرفين الأولين فى الوجود والحياة اللذين يريد الطرف الثالث منعه عنهما، بحجب نصيبهما المشروع من مياه النيل، وهو نصيب شديد المحدودية، ولا يتوازى، أو يتوازن، مع التزايد المضطرد فى عدد السكَّان، وإن كان قديمًا قِدم نهر النيل ذاته، وهو سر الحضارة الزاهرة التى أنشأها المصريون من أجدادنا على ضفاف واديه الأخضر المبارك، وما زالت آثارها تبهر الأنظار وتخلب الألباب، حتى الآن.
وقد استنزفت المحادثات المعادة والمتكررة، عامل الزمن، المهم للغاية، والتى حرصت إثيوبيا من خلالها، كل الحرص، على استهلاك الوقت، وإضاعة الجهد، وتبديد الفرص، وإعادة الأمور، المرَّة بعد المرَّة، إلى نقطة الصفر، للدوران مُجددًا فى دائرة التفاوض المفرغة، دون أن تتزحزح قيد أنملة عن موقعها الأساسى، وموقفها المتصلب الرئيسى!
وقد مارست إثيوبيا هذا المنهج على نحو ذكرنى فى تفاصيله بالأسلوب الصهيونى فى التفاوض، مع الفلسطينيين والمصريين وباقى العرب، والمبنى على ذات القواعد والشروط والـ«تكنيك»، أى إرهاق الطرف الآخر، وهو هنا «العدو» الواقعى والخصم المطلوب هزيمته، حتى إذعانه لـ«الأمر الواقع»، بعد حشره فى ركنٍ معزولٍ، وتضييق الحصار عليه، استنادًا إلى نيّةٍ مُبيَّتة للإضرار العمدى به، وبوجوده المادى والمعنوى، حتى يخضع مقهورًا، لإرادة الغاصب الصهيونى، وهو منهج قاومه شعب مصر بالسلاح والدم، والتضحية والعزيمة، ولم يستسلم، حتى فى أحلك الظروف، أو يخضع له!.
وقد رجعت، فى الفترة الأخيرة، وبمناسبة تطور قضية «سد النهضة» ومخاطره على الأمن الوطنى والقومى، بل وعلى استقرار المنطقة كلها والعالم بأسره، إلى العديد من المراجع والكتابات، المصرية، والعربية، والأجنبية، وحتى الإسرائيلية، لأعاود إحياء الذاكرة حول القضية وتفاصيلها، وكلما استغرقت فى القراءة ازددت يقينًا بأن الأيدى الصهيونية ليست ببعيدة أبدًا عن هذا التعنُّت الأخرق لإثيوبيا.
وهو تعنُّت أخرق لأنه ينسف القواعد والأسس الدولية المُسْتَقرَّة لاستغلال مياه الأنهار بين الدول المُتشاطئة، ويمنح دولة واحدة، أو عدة دول من دول المنبع، حقوقًا إمبراطورية مُطلقة، على رأسها حق المنح والمنع، وفى الحدود، وبالشروط والأكلاف التى تُرضيها، وعلى الشعوب التى يمر بأرضها النهر، أو يصب فى مُحيطها، أن تُذعن صاغرةً لأوامر ونواهى دول المنبع، وإلا حرمتها أسباب الوجود وسر الحياة، وهذا الوضع يُشعل نيران الكراهية والبغضاء بين الشعوب الشقيقة، ويدق طبول حروب دامية ومواجهات عنيفة، تودى إلى التهلكة!.
ومن بين الكتب المرجعية التى أعدت النظر فى مضمونها الخطير، كتاب حظى وقت صدوره باهتمامٍ واضح، وأحدث أصداءً واسعةً، وتسبب فى ردود أفعال عظيمة، وصدرت منه أكثر من طبعة، فى مقدمتها طبعة «كتاب الأهالى»، قبل أن تُعيد طباعته الهيئة المصرية العامة للكتاب، «مكتبة الأسرة- ١٩٩٩»، وهو كتاب «النيل فى خطر»، للكاتب الوطنى، والصحفى المتميز، ونقيب الصحفيين الراحل الأستاذ «كامل زهيرى»، وهو كتاب مُهم للغاية، بل وخطير كل الخطر، لأنه كما يشرح الكاتب يفتح الأعين، ويُميط اللثام عن «جذور الأطماع الصهيونية فى مياه النيل منذ عام ١٩٠٣، أيام اللورد كرومر»، وسعيت إلى الاعتماد على الوثائق السرية، والمراجع المهجورة عن عمدٍ أو جهلٍ حتى أُبين أخطار المشروع الصهيونى الجديد الذى إن تعدَّلت صورته، فلم تتعدَّل مقاصده ومراميه»، «ص: ١٧».
ولقد يقول قائل: «وهل هذا وقت القراءة والتفكُّر؟ إنه وقت العمل والفعل»!.
نعم، وللقائل كل الحق، فى أن زمن العمل قد آن، ووقت الفعل قد حان، لكن لى أن أُذَكِّرُه بما قاله قديمًا «صن تزو»، القائد العسكرى، والمفكر الاستراتيجى الصينى الشهير، «ولد ٥٥١ قبل الميلاد، وتوفى ٤٩٦ قبل الميلاد»: «المعرفة هى القوة التى تُمَكِّنُ العاقل من أن يسود، والقائد الجيِّد من أن يُهاجم بلا مخاطر، وأن ينتصر بلا إراقة دماء، وأن يُنجز ما يعجز عنه الآخرون».
وإذا كان الأمر على هذا النحو المُشار إليه، فماذا قال الأستاذ «كامل زهيرى» فى كتابه القيِّم «النيل فى خطر»، والذى يدفعنا إلى استعادته مُجَدَّدًا فى الظروف الحرجة التى تواجهنا الآن؟!
هذا ما سنلتقى به فى المقال القادم، فإلى اللقاء.