رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إبراهيم أكبر الآباء المؤسسين.. متى ظهر اليهود فى مصر لأول مرة؟

يهود مصر القديمة
يهود مصر القديمة

منذ أن اتحدت مملكتا مصر الشمالية والجنوبية أسفل راية واحدة وتحت تاج موحد خلال الألفية الثالثة، كانت بداية لحضارة مهيبة رسخت آلاف السنين، وأصبحت الدولة المصرية صلبة قوية يحكمها هيكل إداري صارم ومنظم، وظهرت أسس الفكر والفن واللغة المصرية القديمة وإرهاصات العقيدة المصرية القديمة متمثلة في عقيدة الشمس مصحوبة بالإيمان بالبعث والإحياء في العالم الآخر، وهو ما ظهر في مقابر ملوك مصر الأوائل البسيطة ذات الأثاث الجنائي، وتطورت عمارة تلك المقابر حتى أصبحت أهرامات عظيمة بداية من هرم سقارة المدرج وتحول إلى هرم حقيقي للملك سنفرو مع أوائل الأسرة الرابعة بدهشور، ثم الانتقال إلى هضبة الجيزة، حيث بناء أعظم أهرام عرفتها مصر بملحقاتها من معابد جنائزية ومدن عمالية.

وصاحب تلك النشأة الحضارية اهتمامًا كبيرًا بالجيش والتسليم، وبناء نقاط تحصين وتفتيش وقلاع حدودية، حيث أصبح كل ملك يتباهى بحملاته التأديبية ضد القبائل الجنوبية والغربية البدائية البربري، والتي تحاول التسلل لمصر فتنال من خيراتها وتقتات من فضلها، وأصبح كل ملك يطأ بقدمه الأقواس التسعة الرامزة لأعداء البلاد، فيسحقها بقوة لتولي الفرار إلى مخابئها حيث أتت.

وتنامى لدى المصريىن شعور بالزهو والتفرد لإيمانهم بقوة دولتهم واستقرارها وأنهم هم التحضر والمدنية في مقابل بداوة تلك القبائل المرتحلة والمغيرة.

حسب النصوص التوراتية، فإن النبي إبراهيم أو ابرام هو أكبر البطاركة والآباء المؤسسين للعقيدة اليهودية. ويعني اسم "إبراهيم" بالعربية - حسب ما ورد في التوراة - أي أبو الجمهور أو أبو الأمم، بينما ينطق بالآرامية أبا راحيما ويعني الأب الرحيم أو الأب الحنون، كما اشتق اسم إبراهيم من الاسم أبرام والذي يعني الأب العالي أو الأب الرفيع باللغة الكلدانية، ويُرى أن كل من أبرام وأبراهام هما مرادفان لنفس الشخص، حيث إن احدهما أطلق عليه في موطنه ببابل والآخر حين وصل إلى كنعان.

ويعتقد البعض أن أصول النبي إبراهيم كانت من حوران بمملكة ميتاني شمالي الهلال الخصيب، حيث تلقى بها الوعد الإلهي، ثم هاجر إلى أور الكلدانية جنوب غرب الفرات ببلاد النهرين، وهناك من يعكس الرأي بقوله أنه ولد في أور ثم انتقل إلى حوران، ومنها انتقل مرتحلًا إلى بابل ثم حران ببلاد الشام حتى وصل إلى أرض كنعان عن طريق تدمر ثم شكيب حيث تلقى الوعد الإلهي الثاني، وأيًا كان الرأيان، فقد عاش النبي إبراهيم حياة البدو الرحل وانتقل مع القبائل السامية من مكان لآخر.

كعادة الطبيعة حين تغضب، تضرب المجاعة أرض كنعان فينذر القدر إبراهيم النبي بالترحال من مكانه مرة أخرى، وكانت مصر الخصبة هي الوجهة المتحملة له خاصة مع انتشار مراعيها الغنية وفيضان النيل السنوي المستمر. وما أن وصل إلى تخوم مصر حتى أمر زوجته سارة بأن تخفي صلتها به وتدعي بأنها أخته، فتذكر التوراة بأنه إذا أخبر المصريين بأنها أخته أكرموه، وإذا قال بأنها زوجته قتلوه.

وبالفعل عندما وصل إلى مصر اخذت سارة إلى بيت فرعون، وأغدق فرعون على إبراهيم بالخيرات والمواشي والحمير والجمال طمعًا في سارة، ولكن سرعان ما عرفت الحقيقة وأمر بطرد إبراهيم من مصر حاملًا ما منح من عطايا، وقد أنزل الله على هذا الملك عددًا من الابتلاءات وعلى أهل بيته جراء ما كان يريد فعله مع سارة.

ويعتقد البعض بأن النبي إبراهيم قد وصل مصر إبان الدولة الوسطى، حيث هرب وقومه من المجاعة إلى دولة منظمة يمكن أن ينعم فيها بالاستقرار والخيرات، وليس فترة تفكك مثل عصر الاضطراب الأول الذي سبق الدولة الوسطى، فيربطون بين زيارة النبي إبراهيم لمصر وما ظهر على جدران مقبرة خنوم حتب الثاني (BH3) ببني حسن بالمنيا حاكم الإقليم السادس عشر من أقاليم مصر العليا، وهو المنظر الشهير المعروف بزيارة إبشا، فقد أؤرخ هذا المنظر بالعام السادس من عصر الملك سنوسرت الثاني بالدولة الوسطى، فكان من المعروف وجود علاقات طيبة مستمرة بين قبائل الآسيويين ومصر، وكان ترحالهم إليها من كنعان مألوفًا متعارفًا عليه، ولكن كان الجديد هنا هو توغل تلك القبائل في ترحالها حتى تصل إلى صعيد مصر وليس فقط الدلتا، وهو ما كان سبب فخر خنوم حتب ورغبته في تسجيل تلك الزيارة النادرة.

يضم المنظر صفًا بمنتصف الجدار الشمالي للمقبرة يمثل مجموعة من الآسيوين تتكون من خمسة عشر شخصًا: ثمانية رجال وأربع سيدات وثلاثة أطفال يصحبون معهم حمارين وغزالا ووعلا، وعلى ظهر أحد الحمارين نجد أدوات للتعدين، ويتقدم منظر الجماعة موظف مصري يليه رئيس القبيلة وإلى جواره نص هيروغليفي يقول: "حاكم الصحراء إبشا"، ويظهر حافي القدمين احتراما لمهابة حضور خنوم حتب، وقد أمسك هو والرجل الذي يليه حيوانات الصحراء يقدمانها إلى خنوم حتب الثاني، ويحمل الرجال القادمون مع إبشا بعض الأسلحة من سهام وأقواس، بينما حمل أحدهم قيثارة غير متناسقة الشكل في حين يظهر على ظهر حمار آنية كحل، وقد ظهر أفراد القبيلة بزي مرزكش ذات أهداب وأشعر شعثاء سوداء غزيرة ولحى غير مهندمة يرتدون نعالًا ذات سيور، أما النساء فكانت ترتدين أردية طويلة مزخرفة تغطي احد الكتفين وتترك الآخر مكشوفًا.

ويشاهد إلى اليمين من المنظر صاحب المقبرة خنوم حتب الثاني وأمامه وقف كاتب ممسكا برسالة تفيد حضور جماعة الآسيويين، حيث يظهر رئيسهم كما كتب أمام رأسه بالمصرية "حكا خاست" بمعنى " حاكم البلد الأجنبى "والتى أصبحت فيما بعد فى صيغة الجمع "حكاو خاسوت" بمعنى "حكام البلدان الأجنبية" أو "الهكسوس". أما النص المصاحب للمنظر فيمكن قراءته: "الكحل الذى جلب من أجله بواسطة سبعة وثلاثين من (العامو)".

وما يثير الانتباه هو أن المصريين القدماء كانوا يضعون عقوبات صارمة لجريمة الزنا مثلما ذكر في إحدى قصص بردية وستكار، لذلك كان من الصعب أن يقوم ملك مصر نفسه بما يجرمه القانون وتلعنه المعبودات. كما أنه مع تحليل منظر إيبشا وربطه بالنبي إبراهيم فنجد قدوم القبائل الآسيوية كان على ظهر حمير وليس الجمال، حيث إن الجمال لم تظهر في مصر سوى بالقرن الثالث قبل الميلاد، وهو على عكس ما ذكر في التوراة من إهداء إبراهيم لمجموعة من الجمال. لذا فمن المحتمل أن النبي إبراهيم لم يأت لمصر بحثًا عن الطعام والمؤن فحسب، لكنه قد قدم لغرض نشر رسالته السماوية، بعدما وجد من تلك الأقوام التي تحكم مصر من فساد واستبداد وسفك دماء وانتشار للرذائل، كما أنه تكلم بلغة يجيدها أهل القبائل التي استوطنت مصر قادمة من كنعان وهو نفس الموطن الذي جاء منه النبي إبراهيم، وليس لغة المصريين القدماء، لذلك يبدو أنه قد قدم إلى مصر مع نهايات الدولة الوسطى وبدايات عصر الهكسوس أي نهاية وجود الدولة القوية وبدايات الانهيار السياسي والأمني، حين تحولت الإدارة المصرية إلى أقاليم وإقطاعيات منفصلة وانتشرت الفوضى وعدم الانضباط على الحدود المصرية.

ورغم تلك الإقامة السريعة داخل مصر، إلا أن الرب قد نبأ إبراهيم بأن قومه سيأتون إلى مصر وتكتب عليهم الذلة والمسكنة أربعة قرون، حسبما ذكر الدكتور شريف شعبان في كتابه"يهود مصر القديمة"، والذي صدر حديثًا عن دار الرواق للنشر والتوزيع.