رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عصام زكريا يكتب: "قليل من الحب كثير من العنف".. رأفت الميهي وتفجير الواقعية!

عصام زكريا
عصام زكريا


من بين كل الأعمال "التخريبية" التي قام بصنعها السينمائي الأكثر تمردا وخروجا على المألوف في تاريخ السينما المصرية، وهو رأفت الميهي (25 سبتمبر 1940 – 24 يوليو 2015)، فإن فيلمه "قليل من الحب كثير من العنف" ( 1995) يعد الأكثر جرأة وكسرا للتقاليد السينمائية والدرامية، من خلال عدة عناصر على رأسها السيناريو الذي يروي قصة الفيلم على لسان كاتب سيناريو مدفون حيا في أحد المقابر، وبدلا من سيناريو واحد للفيلم فنحن أمام نسختين من السيناريو إحداها "واقعية" والثانية ساخرة. ويعزز ذلك اختيار الممثلين حيث يلعب الأدوار الرئيسية بالفيلم اثنين من الممثلين لكل دور، أحدهما يؤدي الشخصية بشكل درامي تقليدي والثاني يؤديها بشكل كوميدي!
اشتهر رأفت الميهي ككاتب سيناريو قبل أن يكون مخرجا، وهو مؤلف معظم الأفلام التي أخرجها، ولكن "قليل من الحب كثير من العنف" مقتبس عن رواية بالاسم نفسه للأديب الكبير فتحي غانم صاحب "زينب والعرش" و"الرجل الذي فقد ظله" و"الأفيال" وغيرها من الأعمال التي تحول معظمها إلى أفلام ومسلسلات.
الواقع لم يعد واقعيا!
كتب فتحي غانم رواية "قليل من الحب كثير من العنف" في نهاية 1984 وصدرت عن مؤسسة "روزاليوسف" في مايو 1985. كانت هذه الفترة تحفل بالتغيرات الهائلة في شكل المجتمع المصري، بعد مرور حوالي عقد على سياسة الانفتاح الاقتصادي وصعود طبقة جديدة من التجار ورجال الأعمال والمقاولات تمتلك أموالا ضخمة لم يسبق للمصريين أن سمعوا بمثلها، وهذه الطبقة أصبح لها نفوذ سياسي كبير، سيصل لذروته قبيل نهاية عصر مبارك، ويرصد فتحي غانم في روايته علاقة الحب الكراهية التي ربطت بين أصحاب المال الجدد وأصحاب السلطة، من سياسيين وضباط وقضاة وأبناء عائلات عريقة، وهو يذكر في بداية روايته أنها " من صميم الواقع المصري كما عاصرته في نهاية السبعينيات. وما سجلته في الفصول القادمة اعتمدت فيه على وقائع كنت شاهد عيان لها، إلا أنني اضطررت إلى تغيير الأسماء والمواقع الجغرافية ووظائف الناس حتى لا أتعرض لمساءلة قانونية أو أدبية لا مبرر لها"
باختصار تروي الرواية لقاء اثنين من المهندسين الشبان اللذين تم تعيينهما في شركة بترول أمريكية، الأول هو طلعت مرسي ابن رجل الأعمال الذي صعد من الحضيض إلى القمة في غضون سنوات، والثاني يونس عبد الحميد ابن النائب العام سليل العائلة التركية العريقة. الأول بدين شره همجي السلوك ومتوحش والثاني رقيق ضعيف خامل، كل منهما عين في الشركة بواسطة أبيه وليس لكفاءته. وعندما يرى طلعت شقيقة يونس الرشيقة المتعلمة المتعالية يقرر أن يتزوجها، من ناحية ليصاهر عائلتها ذات النفوذ، ومن ناحية ليمتلكها ويسيطر عليها اشباعا لغرائزه وحبه للتسلط، ولكن لطلعت زوجة بسيطة الحال قوية الشخصية من بنات بحري اسمها فاطمة، تقاوم هذا الزواج، وهناك سيد العتر سائق طلعت الذي يسعى للايقاع بين الجميع لعشقه لفاطمة وحقده على طلعت ويونس معا. يفشل مشروع زواج طلعت من ابنة الحسب والنسب، ويتزوج فتاة أخرى عائلتها أكبر اسما ونفوذا، ويسافر للخارج لتنفيذ بعض المشاريع، وعندما يعود يجد أن يونس قد تزوج طليقته فاطمة، فيثور ويرسل له سيد لاستدعاءه، ولكن سيد يحاول اغتصاب فاطمة، ويصل يونس وتدب مشاجرة بين الاثنين تنتهي لمأساة.
عندما قرر رأفت الميهي أن يحول الرواية إلى فيلم عام 1995، كان كل من الميهي والرواية قد قطعا مسافة زمنية طويلة عن الواقع الذي تتناوله. الواقع كان قد تجاوز فساد الثمانينيات بكثير، وعلاقة المال بالسلطة ازدادت توطدا ومتانة، وجاءت حرب الخليج الثانية لتهدم ما بقى من أحلام الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار الأمريكي، ودخلت المطقة، والعالم، حظيرة النظام العالمي الجديد، الذي عبر عنه رأفت الميهي بأفضل ما يكون في فيلمه "سمك لبن تمر هندي"، قبل غزو الكويت بعامين!
الهروب إلى السخرية
بدأ رأفت الميهي حياته الفنية كاتبا للسيناريو انتقل من الواقعية الاشتراكية في فيلمه الأول "وجفت الأمطار" (إخراج سيد عيسى، 1965) إلى كتابة عدد من أهم الأفلام السياسية مثل "غروب وشروق"، "شىء في صدري" و"على من نطلق الرصاص"، بالإضافة إلى "الرصاصة لا تزال في جيبي"، أنجح فيلم صنع عن حرب أكتوبر، قبل أن يتحول إلى مخرج، بجانب الكتابة، ثم الانتاج لاحقا. كان أول أعماله كمخرج بفيلم "عيون لا تنام"، 1981، وهو دراما عائلية جنسية تستكشف تتناول الصراع الدموي داخل إحدى العائلات. بعد "عيون لا تنام" قدم الميهي تحفته "الأفوكاتو"، 1984، الذي حمل كوميديا مصرية مختلفة، تشبه الهجاء السياسي الساخر لفن الكاريكاتير، وقد تعرض رأفت الميهي بسبب الفيلم للمحاكمة بتهمة الاساءة للقضاء والمحامين. فيلمه التالي "للحب قصة أخيرة"، 1986، حمل أيضا جرأة "جنسية" و"دينية" في عز صعود الأصوليين، مما أدى إلى شن حملة ضده وقضية "حسبة" توجت بمحاكمته وفريق عمل الفيلم، قبل أن يحصلوا على البراءة لاحقا، وهو الحادث الذي دفع الميهي إلى المضي قدما في طريق الكوميديا الساخرة المبطنة بالسيريالية والعبثية، التي ستميز معظم أعماله السينمائية اللاحقة مثل "السادة الرجال"، "سيداتي سادتي"، "سمك لبن تمر هندي" و"تفاحة". وخلال هذه الأعمال حطم الميهي كثيرا من التابوهات المتعلقة بوضعية المراة في المجتمع، والتطرف الديني، والمؤسسات السياسية والاجتماعية التي تقهر الأفراد، وغيرها.
بالرغم من براعة رواية "قليل من الحب كثير من العنف" وقدرتها على التعبير عن واقع الثمانينيات من خلال دراما قوية تصلح للسينما بالفعل، لكن يصعب أن نتبين الأسباب التي جذبت رأفت الميهي إلي الرواية التي تبدو بعيدة عن اسلوبه الفني وموضوعاته الدرامية الأثيرة. وتزداد صعوبة فهم هذه الأسباب حين نتبين حجم التغييرات التي قام بها الميهي على الرواية، ليس في الخط الرئيسي والشخصيات وحسب، ولكن في جوهر العمل ونظرته لهذا الواقع.
يبدأ فيلم "قليل من الحب.." بكاتب سيناريو، يشبه رأفت الميهي، يجلس على مكتبه يخط بعض الأوراق وأمامه عدد كبير من شاشات التليفزيون، كما لو أنه في غرفة أخبار بمحطة تليفزيون، كلها تعرض مشاهدا من حرب الخليج الثانية التي اندلعت بعد قيام قوات صدام حسين العراقية باحتلال الكويت، وما تلى ذلك من حرب تحالف دولي على العراق، وهو الحدث الذي زلزل المنطقة العربية ربما أكثر مما فعلته هزيمة يونيو 1967.
ينهض كاتب السيناريو من على مكتبه عاريا مع مجىء الخادمة، فيمارس معها الجنس رغم تمنعها: "بعد الفطار أحسن"، ثم يعود إلى غرفته بملابسه الكاملة ويصعد على مكتبه ويعلق رقبته بحبل مشنقة وينادي على الخادمة ويقول لها "مفيش فايدة زي ما انتي شايفة"، فتسحب الكرسي من تحته. في المشهد التالي نرى جنازة المؤلف في "مقابر السينمائيين"، ومندوب وزارة الثقافة يعلن أن الوزارة ستتكفل بنفقة دفن جميع السينمائيين، وتأتي خادمة المؤلف ببعض أشرطة الفيديو تعطيها لجثة المؤلف الذي يأخذ الشرائط ويلقي لها بقبلة قبل أن يضعوه في المقبرة. هذه السخرية لا يمكن فهمها دون معرفة وضع السينما المصرية آنذاك، حيث كانت الصناعة تعاني من انهيار كامل، وأذكر أن المخرج الراحل محمد خان قدم "كليبا" صغيرا في افتتاح المهرجان القومي للسينما 1994، ينعي فيه موت السينما المصرية بعد تدهور دور العرض والمعامل والاستديوهات وانخفاض عدد الأفلام المنتجة سنويا من أكثر من مئة فيلم إلى أقل من عشرة أفلام.
في مقبرة السينمائيين ينهض المؤلف ليرى اثنين آخرين من زملاءه السينمائيين، أتوا بالطريقة نفسها وهي ادعاء الموت، ويتبين أن "مقابر السينمائيين" الأخرى مليئة بالأحياء الذين أتوا بالطريقة نفسها، بمساعدة الخادمة نفسها "هنية بعد الفطار أحسن"، وأن هنية هي زوجة "التربي". يشكو المؤلف لزميليه من أنهم أتوا له برواية فتحي غانم ليحولها إلى سيناريو، ولكنه كتبها بطريقة كوميدية غير واقعية لم تعجب المنتج. يدور حوار بين المؤلف وزميليه حول الواقعية ويقول المؤلف أن الرواية مكتوبة في الثمانينيات، وأن ما كتب قبل 2 أغسطس (تاريخ غزو العراق للكويت) لا يصلح بعد 2 أغسطس. يطلب منه زميلاه قراءة النسختين ليحكما، فيعطيهما نسخته، ويعقب ذلك عرض المشهد الأول من السيناريو بطريقتين مختلفتين: يصل مسئول كبير بصحبة قزم هو رجل الأعمال مرسي فرج لافتتاح شركة مصرية أمريكية مشتركة وعندما يزاح الستار نرى جنديا أمريكيا حاملا سلاحه جالسا يقضي حاجته! يعترض زميلا المؤلف على المعالجة: "ايه القرف دا؟ دا أنتم بوظتم السينما يا بني..دا أنتو تستحقوا الضرب بالجزم!" يعطيهما المؤلف النسخة الواقعية لقراءتها فنرى المشهد الأول بالطريقة الثانية: يصل المسئول بصحبة الحاج طلعت – يلعب دوره هذه المرة الممثل طلعت عويس- بصحبة زوجته المحجبة ويفتتحان المشروع، ولكن هذه المرة نرى صورة لكأس انتاج فازت به الشركة بدلا من الجندي الأمريكي!
في أعلى المقبرة يصل الممثلون يونس شلبي وأشرف عبد الباقي ونجاح الموجي بشخصياتهم الحقيقية، ويطلبون من المؤلف تنفيذ وعده باسناد أدوار البطولة إليهم. ويصبح لدينا طرفان يقرآن الرواية بسيناريو مختلف: الطرف الأول هو زميلا المؤلف المؤمنان بالواقعية واللذين يكرهان معالجته الساخرة، والطرف الثاني هو الممثلون الثلاثة الذين يقرأون النسخة الكوميدية التي يفترض أن يقوموا ببطولتها، وتتوالى مشاهد الرواية، مرة بالطريقة "الواقعية"، ومرة بالطريقة الكوميدية العبثية. في النسخة "الواقعية" يلعب محمود حميدة دور طلعت مرسي، وهشام سليم دور يونس عبد الحميد، وهشام عبد الحميد دور السائق سيد العتر. في النسخة الساخرة يلعب هذه الأدوار يونس شلبي، نجاح الموجي وأشرف عبد الباقي. وتلعب ليلى علوي دوري فاطمة زوجة طلعت في النسختين "الواقعية" والساخرة، ولكنها في النسخة الساخرة يصبح اسمها الدكتورة طمطم، الأستاذة الجامعية والكاتبة السياسية التي تلون مقالاتها كل يوم حسب اتجاه الريح، وهي تخون طلعت مع كل من سيد العتر ويونس، بعلمه، وموافقته، وفي النسخة الساخرة عموما لا يوجد صراع أخلاقي أو طبقي أو جنسي بين الشخصيات، ولكن حالة من الفساد الكامل والمرحب به لدى كل الأطراف
التاريخ يعيد نفسه
يحمل الفيلم احساسا غريبا بالواقع ينجح الميهي في ايصاله من خلال عدة عناصر، وبالأخص اختيار أماكن التصوير التي تتراوح بين الصحراء والفنادق والأسكندرية، وحتى الملهى الليلي الذي تدور فيه بعض الأحداث يبدو غير واقعيا أو أشبه بعالم مغلق على شخصياته، مثل الفيلم كله. وهذا الشعور الغريب تؤكده المشاهد الافتتاحية في المقابر كما تؤكده المشاهد الساخرة التي تخلق حالة من "كسر الايهام" أو "التغريب" كما يقول نقاد المسرح.
يقال أن التاريخ يعيد نفسه مرتين: الأولى في هيئة مأساة والثانية في هيئة كوميدية، وتتضح هذه المقولة من خلال فكرة رأفت الميهي العبقرية، فالواقع الذي رأى فيه فتحي غانم مأساة دموية تنتهي بمقتل يونس على يد سيد العتر ( تتحول المأساة في الفيلم إلى مقتل فاطمة على يد سيد العتر وقيام يونس بقتل سيد العتر)، هذا الواقع تحول إلى مهزلة عبثية في منتصف التسعينيات نتيجة الأحداث السياسية الجسيمة والمتغيرات الاجتماعية الهائلة بشكل يعجز العقل والتحليل المنطقي على فهمه. المقارنة نفسها تنطبق على السينما، فالموضوع الواحد يمكن معالجته بأكثر من طريقة: تراجيديا أو كوميديا في التقسيمة الكلاسيكية، أو أنواع أخرى بين الاثنين، مثل الواقعية أو الميلودراما أو الخيال العلمي أو الرعب، أو أنواع متباينة من الكوميديا. ومن الطريف مثلا أن نلاحظ أن أفلام ما يعرف بـ"الواقعية الجديدة" في بداية الثمانينيات، التي عالجت القضايا الاجتماعية لعصر ما بعد الانفتاح بطريقة "مأساوية" أو "ميلودرامية"، لا تختلف في موضوعاتها عن موجة الفلام الكوميديا التي اجتاحت السينما المصرية في نهاية التسعينيات، وبالتحديد مع نجاح فيلم "اسماعيلة رايح جاي"، 1998، إذ يدور معظمها حول الشباب المهمشين العاطلين الذين يتعرضون لاختبارات أخلاقية وتجارب قاسية مع السلطة وأصحاب المال والنفوذ.
كان رأفت الميهي أول من أدرك أن الواقع يتحول إلى مهزلة، وأن "الواقعية" لم تعد تصلح للتعبير عن حجم المتغيرات في الواقع، خاصة مع حدود حرية التعبير المفروضة من الرقابة وأصحاب السلطة والتيارات الدينية المتطرفة التي تطارد الفنانين وأعمالهم، وبالتالي لم يعد سوى الكوميديا الصاخبة، المبالغ فيها، التي تصل لحدود العبثية والسيريالية للتعبير عن هذا الواقع القاسي، ولا يجب أن ننسى هنا ان السيريالية" ظهرت عقب مأساة ومهزلة الحرب العالميية الثانية وأن "العبثية" ظهرت عقب مأساة ومهزلة الحرب العاليمة الثانية." وكما يذكر رأفت الميهي على لسان المؤلف في طقليل من الحب.."، فإن ما قبل 2 أغسطس يختلف تماما عما بعد 2 أغسطس، وبالطبع كان الواقع يزداد عبثية خلال السنوات التالية.
لقد تصور معظم النقاد في وقت عرض "قليل من الحب.." أن النسخة التي يطلق عليها "واقعية" من الفيلم، التي يلعب بطولتها محمود حميدة وهشام سليم وهشام عبد الحميد، هي النسخة الأقرب إلى الواقع فعلا، وأن النسخة الكوميدية هي نوع من الفانتازيا والمبالغة، ولكن من قال أن الثلاثة المذكورين اقرب شبها بالواقع من يونس شلبي ونجاح الموجي وأشرف عبد الباقي؟
في الحقيقة يبدو الثلاثة الكوميديون أقرب إلى شخصيات الواقع شبها وسلوكا، بل أقرب شبها بشخصيات رواية فتحي غانم "الواقعية"، فطلعت مثلا، كما يصفه غانم في الرواية " أسمر، له وجه مربع، رقبته قصيرة، يكاد رأسه الضخم يلتصق بكتفيه مباشرة. عيناه سوداون زنجيتان مثل شفتيه الغليظتين فيهما جوع أو نهم الحرمان أو شهوة". فهل هذه الصفات تنطبق على محمود حميدة أكثر من يونس شلبي؟
ويصف فتحي غانم يونس بأنه "ذلك الوجه الشاحب، وجه البلد البنت، وجه ابن الأتراك الأهبل"، فهل هذا الوصف ينطبق على هشام سليم أكثر من نجاح الموجي؟
هل الأخلاقيات التي يتمتع بها يونس في الرواية والفيلم أقرب للواقع من الميل للقبول بالوضع القائم والتنازلات والتفاوضات التي نراها في الواقع، خاصة لدى أبناء هذه الفئات النهمة للمال والسلطة، هؤلاء الذين يستخدمون "الأخلاق" كأوراق لعب على مائدة الأرباح؟
إن النسخة الساخرة في الفيلم هي الأقرب إلى "الواقعية" من عدة زوايا، وأذكر أن الراحل رأفت الميهي – في حوار معه- اعترف لي بأن هذا كان هدفه وأن القليلين جدا هم الذين اكتشفوا ذلك، مثل المخرجة والناقدة الراحلة نبيهة لطفي. ويعبر الميهي عن هذه الفكرة كأفضل ما يكون من خلال الأغنية الجماعية الساخرة التي يؤديها أبطال الفيلم والتي تحمل اسم "فخفخينا"، إشارة إلى حالة الفوضى والسيولة وتجاور التناقضات التي يشهدها المجتمع والتي تقول بعض كلماتها:
"استبينا..أيووه..أيووه
مع بعضينا..أيووه...أيووه
نظام جديد..لحسن ملينا
خدوا القديم بلووه"
ربما يحول دون وصول هذه الفكرة أن النسخة الساخرة في الفيلم غير مشبعة بدرجة كافية، لا من ناحية الوقت ولا اختيار المواقف الدرامية، وكان يمكن مثلا وصول الفكرة بشكل أوضح لو تم وضع نهاية أخرى ساخرة، بدلا من أن ينتهي الفيلم بمشاهد "المأساة" العنيفة والطويلة التي تصبح آخر ما يبقى في ذهن المشاهد بعد انتهاء الفيلم.