رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 30 يونيو والتوازن الدولى «الجزء السادس»


ويشير الواقع إلى أن هناك مسألتين رئيسيتين تـسبـبان انـقساما عـمـيـقا فى تفاعلات العـلاقات الدولية الأولى : هى استمرار السعى الدءوب للولايات المتحدة إلى استقرار مركـز الهـيمنة لـديـها

تناولت فى المقال السابق تأثير ثورة 30 يونيو التى أدت إلى إسقاط المشروع الأمريكى لإعادة هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير، حين تمكنت أولا من إسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وأفشلت ثانيا مشروع تمكين تيار الإسلام السياسى من الوصول إلى سدة حكم دول المنطقة،الأمر الذى يبرر تسارع الولايات المتحدة للتوصل إلى تسوية المسألة النووية مع إيران، حتى تتمكن من تحقيق مشروعها عـن طريقها، وتشركها فى تسوية الأزمة السورية، وتمنع روسيا من استقطابها، ثم تناولت الحقائق والبراهين التى تؤكد أن قبول إيران لهذه التسوية جاء بعـد امتلاكها للرادع النووى، وانتهى المقال بسؤالين الأول هو: هل تسعى الولايات المتحدة إلى بناء تحالف يضم القوى غير العـربية «إيران وتركيا وإسرائيل» لفرض واقع هيكلة وتشكيل الشرق الأوسط الكبير؟ والثانى هو، هل يدرك العـرب ذلك؟ وهو ما سأتناوله اليوم.

وللإجابة عن هذين السؤالين ينبغى أولا توضيح أبرز الحقائق والمتغـيرات الدولية والإقليمية التى تقود إلى الإجابة الصحيحة عـنهما، إذ تشير الحقيقة الأولى إلى أن العالم أصبح يعـيش على كوكب ضيق يزداد ضيقا يوما بعـد يوم، فى ظل التطور التكنولوجى الهائل فى وسائـل المعـلومات والاتصالات ووسائل الصراع المسلح، الأمر الذى أحدث ارتباطا متبادلا بين المتغـيرات الإقليمية والدولية، فأصبحت تتداخل فيما بينها وتتفاعـل مع بعـضها، بحيث أصبح من الصعـب الفصل بينهما، وتشير الحقيقة الثانية إلى أن منطقة الشرق الأوسط تتلاحم مع منطقة حوض النيل ومنطقة القرن الأفريقى فى تواصل جغـرافى فريد، الأمر الذى يجعـله يُشكل نسقا إقليميا مميزا، ذا نمطٍ تفاعليٍ واحد، حتى أصبحت المتغـيرات التى تحدث فى أى جزء منه تؤثر فى جميع أجزائه سلبا أو إيجابا، أما الحقيقة الثالثة فتشير إلى أن هذا النسق المميز يُعـد من أكثـر الأنساق أهـمية وحساسية فى العالم لاعـتـبارات استراتيجية عـديـدة، بحكم موقعه وثرواته واحـتـوائه على مصالح متعارضة ومتشابكة للقوى العـظمى والكبرى، حتى أصبح لا غـنى عنه فى بناء الاستراتيجيات العالمية على مر العـصور، وبالرغم من هذه الأهمية فقد افـتـقـر إلى الحـد الأدنى من التكامل والتقدم، حتى أصبح مطمعا لهذه القوى، وأصبح مسرحا واسعا للتحولات والمتغـيـرات الدولية والإقليمية التى غالبا ما تميزت بسرعة وكثافة وتراكم تفاعلاتها إلى حد التعـقـيـد، وتركزت فى معـظمها على العلاقات الدولية.

ويشير الواقع إلى أن هناك مسألتين رئيسيتين تـسبـبان انـقساما عـمـيـقا فى تفاعلات العـلاقات الدولية الأولى : هى استمرار السعى الدءوب للولايات المتحدة إلى استقرار مركـز الهـيمنة لـديـها إن رهـبـا أو رغـبـا بـعـد أن انـفـردت بـالـنـفـوذ على الساحة الدولية، والثانية هى رغـبة روسيا الأكيدة فى استعادة نفوذ القوة السوفيتية العـظمى باعـتبارها الوريثة الطبيعية لها، وسعى الصين الحثيث لمشاركتهما النفوذ عـلى الساحـة الدولـيـة، وهاتان المسألتان قد عملتا على إبراز بعـض التحولات التى طرأت عـلى بنيان النظام الدولى الراهن، الأمر الذى يحمل فى طياته إرهاصات تحول النظام الدولى الراهن إلى نظام تتعـدد فيه الأقطاب،

وبالرغم من أن ملامح هذا النظام لم تتبلور بعـد، إلاَ أنه يمكن تصور صيغ علاقاته الدولية، فهى إما أن تكون ذات صيغة تعاونية بين أقطابه، وفى هذه الحالة يمكن تحقيق التوازن الدولى المستقر، وبالتالى يمكن صيانة الأمن والسلام العالمى وتحقيق استقرار النسق الدولى، وإما أن تكون ذات صيغة تنافسية، وهى الحالة التى قد تنشأ معها حالة استقطاب جديدة، تُقسَم العالم إلى مناطق نفوذ، وتقوده إلى بناء تحالفات وتحالفات مضادة، وربما تهدم توازنات قائمة وتقيم توازنات جديدة.

وترتيبا على ذلك، يتعـين أن يدرك العـرب أولا مغـزى تواجـد القوى الدولية والإقليمية الكـثـيـف فى المناطق الاستراتيجية والحيوية للدول التى تحيط بالمنطقة العـربية، إذ يمكن تحليل المحتوى الفكرى لمنظور الولايات المتحدة الجيوبوليتيكى إلى مسارين متوازيين، الأول هو السيطرة عـلى المضايق البحرية التى تحصر الإقليم، مضيق البسفور شمالا وهو تحت سيطرة حليفتها تركيا، ومضيق جبل طارق غـربا وتسيطر عـليه بريطانيا حليفتها أيضا، ومضيق باب المندب جنوبا الذى قامت بالسيطرة عليه وأنشأت قاعـدة بحرية ضخمة عـلى إحـدى جـزر أرخـبـيـل دهلك بإريتريا، أما المسار الثانى فهو تعـظيم قدرات القوى غـير العـربية، والعـمل على إضعاف القوى العربية التى يمكنها مواجهة هذه القوى..

وإلى الأسبوع القادم لاستكمال الحديث بإذن الله.

■ أستاذ العلوم السياسية - جامعة بورسعيد