رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالرحيم طايع يكتب: لعبة الفيروسات

عبدالرحيم طايع
عبدالرحيم طايع



منذ ظهر كورونا وتوغل فى العالم وحديث الفيروسات لا ينقطع، من يعرف يتكلم ومن لا يعرف يتكلم، لا يتوقف الكلام الذى معظمه توقعات سيئة، والناس فى خوف وإحباط شديدين، ولا قانون يمنع أحدًا من الكلام، دبت الفوضى فى الأرض، ومهما حاولت منظمة الصحة العالمية التشبث بالخيط الذى يكاد يفلت منها فإنها لا تستطيع، ومهما نشرت وزارات الصحة فى سائر الدول معلوماتها الصحيحة الموثقة حول الجارى، فإن التكذيب طاغٍ، واجتهادات المخرفين غالبة، والارتباك سيد الموقف.
اللقاح مفيد وغير مفيد فى الوقت نفسه، عالم غربى يصرح بأن فيروس ميرس هو القادم بعد كورونا وعالم شرقى ينفى، أطباء يتوصلون إلى حقائق خطيرة بشأن تحور الفيروس فى المستقبل القريب وآخرون يقولون: لن يتحور قريبًا، أنباء تفيد بنهاية كورونا فى الصيف المقبل وأخرى تقول: سيمكث إلى الأبد.
لا يقتصر الأمر، ويا للأسف، على المتخصصين، وكان يكفينا تخبطهم على الرغم من وفرة علمهم وكثافة خبراتهم، بل يصول ويجول فيه رجال دين؛ فيدعون أن الموضوع من أوله إلى آخره انتقام إلهى محض، لأن البشر حادوا عن الخط المستقيم وصاروا شياطين تتفوق فى الفسق على الشيطان الرجيم نفسه، ويصول ويجول فيه متنبئون فيحددون ساعة الانتشار الرهيب وساعة الاضمحلال المفاجئ، ويصول ويجول فيه سحرة ومشعوذون ودجالون ومثقفون وإعلاميون، كل فئة من هذه الفئات تقص رؤاها العجيبة كأنها الصدق، وتعتبر خيالها الفسيح هو الحقيقة، بل يصول ويجول فيه أشخاص عاديون فى البيوت والمقاهى والأندية وعلى صفحات السوشيال ميديا؛ فلا يبقى أحد تقريبًا إلا أدلى بدلوه فى المسألة، وهكذا تتحول القضية الجادة إلى لعبة كلعبة المتاهات.. لعبة لعينة قاتلة!
العالم، بالأساس، يعانى اقتصاديًا أكبر المعاناة ويقاسى معارك سياسية ضارية وانقسامات اجتماعية حادة، وما من موضع فيه إلا يغلى بسلسلة من الأحداث المفسَّرة وغير المفسَّرة، القضايا الخلافية تتسع ولا تنحسم، والحروب التاريخية كما هى بل تتضاعف، وفى الإقليم الواحد صارت هناك أيادٍ تحمل زهورًا تقابلها أخرى تحمل سيوفًا، كما أن الإرهاب يمارس تخريبًا ماديًا ومعنويًا هائلًا ويفتح لنفسه أبواب وجود جديدة، منتهزًا تشوش المشاهد ورداءة الأحوال وتوتر العلاقات، وكما أن فى الآفاق معلومين يمارسون بغيًا فادحًا بلا رادع لهم، فإن فيها مجهولين ينفخون فى النار كى تظل ألسنة لهبها مرتفعة.
الحالة النفسية العامة للشعوب ليست على ما يرام، وآخر ما يمكن أن يكون الخلق فى حاجة إليه أحاديث مرسلة مقلقة عن أوبئة وأمراض يتولد بعضها من بعض ويعقب بعضها بعضًا بلا نهاية.
لقد تحمل الناس تكلفة كورونا راضين، تحملوا الإنفاق المفضى إلى الإفلاس والعزلة المهينة وفقدان الأحبة، لكنهم تحملوا ما تحملوه مترقبين أملًا حقيقيًا ومنتظرين حلولًا قطعية وأدوية ناجعة، وما كانوا تحملوه البتة كى يخرجوا من حفرة إلى أختها ومن امتحان صعب إلى امتحان أشد صعوبة.
لا يليق بالعالم، بعد أن تقدمت أدواته، بمرور السنين، وتطورت معارفه، أن يغرق فى بحر من تضاربات الأقوال، كالذى صرنا نصحو فى قلب أمواجه وننام فيها بل نصادفها متصاخبة فى أحلامنا أيضًا.. لا يليق به أن يكون فوضويًا كما نجده الآن، ولم يكن يليق به أصلًا أن يكون ساحة هدم وهو المهيأ للبناء.
فليكف الذين لا شأن لهم بالطب ولا العلم عن الإفتاء فيهما بجزاف ومجانية، وليرعو الذين جعلوا الدين مطية عن إقحامه فى كل الأمور واستخدامه بشكل استهلاكى ذميم، وليكن الأطباء والعلماء أقرب ما يكونون إلى توخى الصواب والحكمة بالطرق المستقيمة وأبعد ما يكونون عن الحرص على الكسب والشهرة بأى طريقة.
العالم فى حاجة إلى الطمأنينة، بلا أدنى خداع طبعًا، وفى حاجة إلى المرجع اليقينى الواحد لا المراجع المرتابة المتعددة، والناس فى عمومهم على استعداد كامل أن يدفعوا الثمن، ثمن الصبر والألم، شريطة عثورهم على الضياء الباهر فى آخر النفق الطويل لا اصطدامهم بظلام أشد كثافة وتعقيدًا.
لسنا فى حاجة إلى قوانين إضافية صارمة تحكمنا، وإن كان لا بد منها فى الواقع المضطرب، بقدر ما نحن فى حاجة إلى ضمير يقظ وصدق غالب وسلام أكيد؛ فبهذه القيم يمكننا القفز من العبث لما يحقق حياة نرجوها لعالمنا المحتضر.