رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السعودية وانقلاب الحليف الأمريكى


قيام إدارة بايدن بنشر نص تقرير المخابرات، المتعلق بمقتل الصحفى جمال خاشقجى، كان بمثابة الضوء الأخضر، لهجوم إيرانى-حوثى غير مسبوق على السعودية.. التقرير تم إعداده إبان حكم ترامب ٢٠١٨، واطَّلع عليه بعض أعضاء الكونجرس، إلا أن الإدارة الأمريكية رفضت نشره آنذاك، متجاهلة إلحاح بعض المنظمات الحقوقية، حفاظًا على العلاقات الاستراتيجية مع المملكة.

أفريل هاينز، المديرة الجديدة للمخابرات الوطنية، أوفت بتعهداتها أمام الكونجرس بمحاولة الكشف عن تقدير دوائر المخابرات لمن كان وراء مقتل خاشقجى، لكنها استندت إلى استنتاجات ضعيفة لا تدعمها دلائل.

الإدارة الأمريكية أعلنت عن أنها بصدد اتخاذ مجموعة إجراءات أطلقت عليها «سياسة خاشقجى الجديدة»، ما يعنى أنها ليست مجرد عقوبات ترتبط بواقعة معينة، ولكنها سياسة معادية للمملكة، قد يتم اتباعها مستقبلًا.

بايدن وعد خلال حملته الانتخابية بجعل السعودية «دولة منبوذة»، بسبب انتهاكاتها حقوق الإنسان، كما تعهد بإنهاء الدعم الأمريكى لحرب اليمن، وهو موقف ينطلق من رؤية الديمقراطيين التى تعتبر إيران وتركيا وجماعات الإسلام السياسى، مرتكزات أساسية للسياسة الأمريكية فى المنطقة.. رئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب الأمريكى آدم شيف، أكد أنه لا يكفى فرض عقوبات إذا ثبت تورط ولى العهد السعودى فى الجريمة، وقدَّم فى أكتوبر ٢٠٢٠ مشروع قانون باسم «جمال خاشقجى» يستهدف حظر المساعدات الأمريكية عن أى دولة، وفرض عقوبات على الأفراد، لدى ارتكاب انتهاكات جسيمة ضد الصحفيين تتعلق بحقوق الإنسان.. عادل الجبير وزير الدولة للشئون الخارجية السعودى حاول التخفيف آنذاك من وقع هذه التصريحات التهديدية للرياض مؤكدًا «أنها مواقف مرشح وليست بالضرورة مواقف الرئيس»، لكن ما أعقب الانتخابات الأمريكية من إجراءات أثبت عدم صحة ذلك.

الرئيس بايدن اتصل بالملك سلمان قبل نشر التقرير، وأبلغه أنه سيعمل على جعل العلاقات بين البلدين «قوية وشفافة قدر المستطاع».. هذا الوعد أعقبه الهجوم على محمد بن سلمان ولى العهد، والإعلان عن رفض التعامل معه، وهو ما يعنى الكثير فيما يتعلق بمستقبل العلاقات الأمريكية السعودية.. جين ساكى المتحدثة باسم البيت الأبيض، أعلنت عن إعادة تأطير العلاقات مع السعودية، على نحو يكفل الاتصال بين النظراء، وبالتالى فإن بايدن لن يتواصل سوى مع الملك سلمان، ولا يعتزم التواصل مع نجله ولى العهد ووزير الدفاع.

وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن اتصل بدوره بنظيره السعودى فيصل بن فرحان، ليشدد على «أهمية الارتقاء بحالة حقوق الإنسان»، وتلك إشارة إلى أنها ستكون إحدى القضايا التى ستتمحور حولها علاقات الدولتين خلال المرحلة المقبلة.. كل المؤشرات أكدت أن التطورات الدراماتيكية فى العلاقات الأمريكية السعودية تتم مع سبق الإصرار والترصد.

الإدارة الأمريكية استبعدت فرض عقوبات على ولى العهد السعودى، أو توجيه تهم جنائية له، على نحو قد يمنعه رسميًا من دخول الولايات المتحدة، خوفًا من أن يؤدى ذلك إلى انهيار كامل لعلاقات التعاون بين الدولتين، خاصة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب وسياسات الطاقة.. لكنها فرضت عقوبات على عدد من المسئولين السعوديين، تتضمن حظر ممتلكاتهم ومصالحهم الموجودة على الأراضى الأمريكية، وأبرزهم نائب رئيس المخابرات العامة السعودية السابق أحمد العسيرى، وأفراد قوة التدخل السريع، كما حظرت وزارة الخارجية الأمريكية منح تأشيرات لـ٧٦ سعوديًا آخرين.

وعلى صعيد السياسة الخارجية رفع بايدن الحوثيين من قائمة التنظيمات الإرهابية، التى أدرجهم عليها ترامب، وأوقف الدعم الأمريكى لكل العمليات العسكرية السعودية فى اليمن، ووجه بدراسة إلغاء صفقات أسلحة قد «تثير مخاوف متعلقة بحقوق الإنسان»، وقصر المبيعات العسكرية مستقبلًا على الأسلحة الدفاعية، ووقف ترتيبات تبادل المعلومات الاستخباراتية مع المملكة والتحالف الذى تقوده.

وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن أكد أن الرئيس بايدن طلب التشديد على أن «العلاقات مع السعودية يجب أن تعكس القيم الأمريكية، وأنه لا ينبغى التهاون مع أى اعتداء على الناشطين والمنشقين والصحفيين»، وأكد أن واشنطن تود تغييرًا وليس «شرخًا» فى العلاقات مع السعودية!، رغم أن واشنطن أعلنت فى نفس الوقت عن موافقتها على الجلوس مع الإيرانيين على طاولة المفاوضات، لبحث إمكانية العودة للاتفاق النووى، ما عكس انحيازًا واضحًا لطهران، وعودة إلى السياسة التى سبق أن تبنتها إدارة أوباما.. سرعة استيعاب الرياض خطورة هذا التغيير أمر لازم، حتى يتم إجراء تحولات مقابلة تحفظ الأمن الاستراتيجى للمملكة، وتصون سيادتها.

إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب كانت تعتبر المملكة «حليفًا استراتيجيًا»، لكن مواقف وتصريحات الإدارة الأمريكية الجديدة تشير إلى أنها أضحت تعتبرها مجرد «شريك أمنى»، قد تنزلق العلاقة معه إلى ما يشبه القطيعة، لو تبوأ ولى العهد السلطة، وذلك تراجع جوهرى فى العلاقات، لا علاقة له بتأخر المملكة عن تهنئة بايدن بالفوز، لحين حسم المعركة القضائية بينه وبين ترامب بشأن اتهامات تزوير الانتخابات، فقد تأخر بالمثل العديد من الدول الأخرى، وسياسات الدول لا تغيرها إجراءات مراسمية كهذه.. التحول أيضًا لم يكن نتاجًا لـ«استنتاجات خاطئة»، تأسست على قاعدة أن ولى العهد لديه سيطرة مباشرة على أجهزة الأمن والمخابرات، التى ارتكب بعض عناصرها جريمة خاشقجى.. ولكن السبب يرجع إلى أن إدارة بايدن اعتزمت إحياء الاتفاق الاستراتيجى مع إيران، الذى تم فى عهد أوباما، ويتضمن العودة للاتفاق النووى، الذى يقضى بعدم امتلاك إيران أسلحة نووية، مقابل إطلاق يدها فى بعض دول المنطقة.

استراتيجية بايدن الديمقراطى تتمثل فى السعى لتعزيز دور الإسلام السياسى فى المنطقة، وهذا الموقف يتعارض كلية مع السياسة التى انتهجها الأمير محمد بن سلمان لعصرنة الدولة، وتطويق نفوذ الوهابيين والإخوان، والتصدى للأطماع الإيرانية والتركية فى المنطقة.. هذا التعارض فى السياسات يطرح الشكوك حول مبررات التشدد فى موقف واشنطن من ولى العهد.. هذا الطرح ليس دفاعًا عن جريمة اغتيال خاشقجى الشنعاء، التى كنا أول من ندد بها، وحمَّلنا النظام المسئولية الأدبية عن ارتكابها.. ولكن لا يمكن أن نظل أسرى تلك الواقعة إلى الأبد، كما لا ينبغى أن نتركها تحكم علاقات استراتيجية على هذا النحو، خاصة بعد أن صدر حكم القضاء فى حق المتهمين.. ولكن للأسف، فإن كل الشواهد ترجح أن ما وقع من تطورات فى ملف العلاقات الأمريكية السعودية مجرد مقدمة قد يعقبها الكثير، مما يمس علاقات التحالف بين الرياض وواشنطن فى الصميم.. وإن لم يكن ذلك، فعلى الإدارة الأمريكية سرعة المبادرة بتصحيح مسارها.

والحق يُقال، فإن القيادة السعودية قد فعلت كل ما يمكن للحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع الإدارة الأمريكية الجديدة. فبادرت خلال قمة العلا بإنهاء الحصار المفروض على الدوحة منذ يونيو ٢٠١٧.. وقامت بتهدئة حدة التوتر فى العلاقات مع تركيا.. وسارعت بتسوية المحاكمات والاعتقالات السياسية التى لقيت إدانات فى الخارج.. وأطلقت سراح بعض السجناء السياسيين، بمن فيهم الناشطة المعروفة «لجين الهذلول»، بعد نحو ثلاث سنوات من الاحتجاز.. لكن القيادة السعودية التى فاجأها قرار إدارة بايدن تعليق بيع طائرات مقاتلة متطورة من طراز «إف-٣٥» للإمارات، صارت تخشى احتمالات سعى الدوائر الصهيونية فى واشنطن لتوظيف الضغوط التى تمارسها الإدارة الأمريكية على بن سلمان، فى محاولة الدفع لإسراع المملكة بإجراءات التطبيع مع إسرائيل، والتعلل بأن ذلك قد يسمح لهذه الدوائر بالتدخل للتخفيف من هذه الضغوط!.

بايدن وهو ينقلب على الحليف السعودى على هذا النحو، ينبغى ألا يتجاهل الأهمية الاستراتيجية للمملكة، فهى تملك مفاتيح قبول المنطقة أو رفضها أى اتفاق أمريكى جديد مع إيران، وهى محور مهم لمحاربة الإرهاب، وضامن لاستقرار سوق النفط، كما أن موقفها مؤثر على العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية.

الوجود العسكرى الأمريكى على الأرض بالمملكة- قرابة ٢٠٠٠ جندى- مهمته الرئيسية مكافحة أنشطة القاعدة والتنظيمات الإرهابية فى الجزيرة العربية، فضلًا عما تتمتع به القوات الأمريكية من مزايا استراتيجية بتمركزها فى قواعد جوية بالطائف وتبوك غرب المملكة، وكذلك بقاعدة «الأمير سلطان» جنوب الرياض، أما ميناء ينبع المطل على البحر الأحمر فيُستخدم لسفن النقل، تجنبًا لمضيق هرمز.. هذه التسهيلات تجعل المملكة فى موقع الأقوى إبان تعاملها مع إدارة بايدن، لأنها تملك من الأوراق ما يؤثر بقوة على التوازن الدولى بالمنطقة.

الحقيقة الأخرى التى ينبغى أن تضعها واشنطن فى اعتبارها، أن السعودية أكبر مستورد للسلاح فى العالم «١٢٪ من إجمالى واردات الأسلحة العالمية»، وأن الولايات المتحدة تحظى بنصيب الأسد من التعاقدات السعودية، ما يعنى أن هناك مصلحة اقتصادية واستراتيجية أمريكية مباشرة معها، خاصة أن أسواق السلاح الروسى والصينى والأوروبى مفتوحة أمامها كبديل معتبر، يمكن أن يسبب خسارة جسيمة لواشنطن.. كما لا ينبغى للإدارة الأمريكية ألا تغفل الدلالات المرتبطة بالاتفاق الذى وقعته المملكة مع الصين، والذى يشمل استثمار الأخيرة ما يزيد على ١٠٠ مليار دولار فى المملكة.

لم تشهد الأهداف المدنية فى المملكة قصفًا بالصواريخ والطائرات المُسيرة من وكلاء إيران فى المنطقة، بمثل ما حدث من تركيز منذ وصل بايدن للسلطة، وقيامه برفع الحوثيين من قائمة الإرهاب، فماذا يعنى ذلك سوى أنه أعطاهم إشارة خضراء بألا يضعوا حدودًا لعدوانهم، ليطال حتى الأهداف المدنية.. ملامح اتفاق أوباما الاستراتيجى مع إيران آخذة فى التبلور.. فهل تتصور واشنطن أن صبر المملكة القوية، على حليفها المنقلب سيستمر طويلًا؟!