أبويا بنا السد العالي.. محمد العربي نجل أشهر عمّال "السد": أبويا وزمايله حركوا الجبال وحولوا مسار النيل
الحاج جابها مشي من الأقصر حتى العريش ثم السودان إلى أسوان للعمل فى السد
بشاربه الكث، وعمامته البيضاء المتقنة على رأسه، وجلبابه الصعيدي الذي تزينه تلفيحة لا تخلو من ثقوب الزمن وكأنه "حارس مقبرة أثرية عتيقة". وقف محمد العربي أحمد، الشاب ذو البشرة السمراء الذى تميزه اللكنة الصعيدية، يتحدث إلي عبر هاتفه القديم المتواضع: "أنا منتظرك يا أستاذ أحمد عند المعهد الأزهري في شارع (السوج) الرئيسي بأسوان".
لم تكن رحلة بحث "الدستور" عن محمد العربي بالأمر اليسير، خاصة أنه ابن أحد أشهر عمال التراحيل الذين عملوا معظم حياتهم في بناء السد العالي، ضمن الـ34 ألف رجل الذين أتوا لأسوان من كل ربوع المحروسة لكي يحركوا الجبال حرفيا ويحولوا مسار النيل ويصنعوا التاريخ، والده كان يعرف بـ"عم عربي الصعيدي" الرجل الأشهر بين عمال السد، ولشهرته هذه حكاية فريدة، فالعم عربي، لكي يعمل في أسوان اضطر أن يمشي على قدميه من الأقصر إلى العريش ومنها إلى السودان ثم إلى أسوان ليعمل ضمن من يعرفوا بـ"حجارين" السد العالي، خاصة بسبب الفقر المدقع الذي كان يعيش فيه والعمل في الوسية بالسخرة حينها وبلا أي مقابل تقريباً.
يقول محمد العربي إن والده كان يعمل "نحات" بـ"أجنة وشاكوش" وكان يتم ربطه من وسطه بالحبال ويتم إسقاطه داخل الجبل والحجارة لكي يعالج الأحجار التى تشرخت فى طريقها لأسفل ولم تسقط، وذلك بعد عملية تفجير الجبال بالديناميت، موضحاً أن تلك المهنة كانت معروفة بأنها المهنة الأخطر بين عمال وفواعلية السد العالي، وخطر الموت كان يلاحق والده وزملاءه أكثر من مرة.
يستعيد محمد بن الحاج عربي حكاوي والده عن العمل فى السد: "كان فيه مكنة بيستخدموها لتخريم الجبل، والعربيات تروح بالديناميت وتفرغه في الأخرام اللي كان كل خرم منها بياخد عربية لوحده، والتفجير ده كان له ناسه، وفيه صفارة كانت تضرب كأنها صوت من السما مرعب علشان العمال يبعدوا عن مكان التفجير، ورغم كده كانت الحجارة توصل لمساكن العمال، ناس كتير كانت بتموت أو متسمعش فيفضلوا على الجبل ده لو عايشين لحد ما تروح الكراكات اللى كان بيشغلها ويسوقها الجماعة الأجانب الروسيين تنزلهم أو تهز الجبل علشان تنزلهم".
التاريخ الإنساني للسد.. وحكاية "الكرابيج"
يصف محمد والده الحاج عربي النحات بأنه كان عاشقاً للمواويل والشعراء القدامى، وكان معروفاً بمواويله خلال بناء السد بين صحابه من الأنفار، لافتاً إلى أنه يفرح بشدة ويمتلئ قلبه بالنشوى كلما سمع أغنية عبد الحليم حافظ "قولنا هنبنى وأدينا بنينا السد العالي" واصفاً ما حدث بأنه إنجاز لن يتكرر، كما أنه يذكر والده عندما كان يستعين به في مشوار "جبض المعاش" والذى كان يتسند عليه طوال الطريق ويروي له ذكرياته عن عمله في السد العالي.
يستعيد محمد ما حكاه والده عن طبيعة عمله، للروائي والمؤرخ يوسف فاخوري، عندما زار هذا الأخير ليوثق شهاداته ضمن الذين كانوا يعملون في السد من عمال وفنيين ومهندسين، ليكتب ملحمته "التاريخ الإنساني للسد العالي". ويقول كنت أجلس بالقرب منهم وأسمع ما يقولونه ولا أنسى ما قاله "أبوي" عن أجواء العمل وأنه كان ضمن الصعايدة اللى كانوا يجيبوا الطبل فى الليل ويلعبوا بالعصا، و كبار السن يجلسون لمشاهدتهم وتشجيعهم" داخل سكن السد.
ومن المفارقات الطريفة التي يرويها محمد عن والده، أنه كان يظن أنه في بداية العمل في السد العالي "كانوا عايزين يشغلوه هو باقي العمال بالكرابيج"، وأنه رأى تلك الكرابيج في المخازن، ولم يحمهم من الجلد بالسياط سوى تدخل الرئيس عبد الناصر بنفسه فأمر: "ماتضربوهمش وزودوا الورديات والعمال والفلوس"، لكن في النهاية اتضح أن الكرابيج كانت تستخدم للتعامل مع البغال التي كانت تجر العربات خلال عمليات رفع المساحة، وهو ما جعل أبوه يتذكر أيام السخرة في الوسية.
لازم كلنا نموت زى عبدالناصر ما مات
يتوقف محمد عند سماع اسم عبد الناصر، لأن والده كان يعشقه بشدة ويعلق صورته في المنزل حتى الآن كرمز وذكرى تعكس مدى حبه للرئيس الراحل. كما يؤكد محمد أنه يشاهد الآن المشاريع القومية التي ينفذها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ويرى أنها تقدم وإنجاز لم يره المصريون من قبل سواء من "مباني وكباري وطرق"، حسبما يقول.
وعن وفاة عبد الناصر، قال محمد العربي إن والده كان يقول "زي ما مات عبد الناصر لازم كلنا كنا نموت" وأن "العمال خدوا بعضهم ومشيوا فى الشوارع تايهين وكله كان خايف من العمال اللى كانوا شايلين حجارة وشوم ومناجل فى ايديهم من شدة حبهم لعبد الناصر لأنهم كانوا بيعتبروا نفسهم قرايب رئيس الجمهورية اللي وعد إن الغلبان اللى بياكل فجل مش هيسيبه لو ربنا طول فى عمره لحد ما يخليه يركب عربية ومايمشيش على رجله، ويخلي راسه براس الغني.
ابن البطل
يعيش الآن محمد وهو في نهاية عقده الرابع بوظيفته كعامل في المعهد الأزهري بأسوان، دون أن ينسى ذكرى أبيه والفخر الذي تركه له بسبب عمله في بناء السد العالي الذي انتشلهم من الفقر، يقول "ولدت أنا واخواتي هنا فى أسوان رغم أن أبوي وأمي جم من الأقصر، واستوطنوا هنا، عندي 6 إخوات الكبير اسمه بهلول ثم أحمد ومحمود وبنتين، وأبويا من الناس اللي شجيت علينا، وأكثر المتعلمين فينا حاصل على دبلوم".
لدى محمد 4 أطفال أطلق اسم والده ووالدته على اثنين منهم هما "عربي" و"زينب" ويصف والدته "زينب" بأنها شالت والده وعانت معه وعاشت في الفقر بكل مراحله وتوفت قبل والده بعام وهو ما جعل والده يحزن عليها بشدة ويموت بعدما، رحلت الست زينب عام 2007 ومات الحاج عربي مكلوماً عليها عام 2008 عن عمر يناهز 88 سنة، يقول محمد: "تبقى لي من أبي الكرم والشهامة" ويضيف: "لذلك دائماً أقول لولادي جدكم كان فارس وواحد من رجال السد العالي".
يتمنى محمد العربي أن يعيش في مكان نظيف خاصة أنه لازال يسكن جبل "الحكروب" وهو منزل أبيه الذي ورثه منه ولا زال يعيش هو واثنان من إخوته فيه، وتهاجمهم العقارب وأنواع كثيرة من الزواحف التي تهدد حياتهم بلدغاتها السامة، لذلك يحلم محمد بأن يعيش أطفاله في مكان نظيف من شقق الإسكان الاجتماعي لكنه لا يقدر على دفع مقدم لها، ويشير إلى أنه يعاني إصابة في قدمه جعلته عاجزاً عن العمل المتواصل.