رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

داليا مجدى عبدالغنى تكتب: ما وراء الأساطير

داليا مجدى عبدالغنى
داليا مجدى عبدالغنى

العقل هو أعظم نعمة وهبها المولى، عز وجل، للإنسان، فالعقل هو الميزان الحقيقى للجسد والروح، فدونه لا بد أن يحدث خلل فى كل الأجهزة؛ لأنه المُنظم لكل خلجة من خلجات الإنسان، فهو الذى يمنع الإنسان من ارتكاب الخطأ، وهو الذى يكبح جماح الحماقة، وهو الذى يُسيطر على الثورة والغضب، وهو الذى يرتب الأفكار ويساعد على الابتكار، فالعقل هو الذى يزن الكلمات، فيفرق بين بريقها الحقيقى والزائف، وهو الذى يُسيطر على القلب لو خرج عن زمامه.
وهكذا، فالحديث عن العقل يحتاج إلى ملايين الكلمات والمقالات والكتب، لأنه نعمة لا يُضاهيها أى نعمة، حتى المشاعر التى يظن الكثيرون أن مناطها هو القلب فقط، بمعنى أنها تبدأ من القلب وتنتهى به، وهذا الظن فيه الكثير من الخطأ، فالمشاعر لا تصل إلى القلب إلا عن طريق إشارات يُرسلها العقل إليه، والأحرى بنا أن نستعمل عقولنا فى كل شىء، ولكن أى عقل الذى يجب استخدامه؟
بالقطع العقل المستنير، أى العقل الذى تُنيره المعرفة، والذى ينهل من بحر المعلومات، والذى لا يكل عن التفكير والتدبر، وصدق الله العظيم عندما أنهى العديد من آيات القرآن الكريم بعبارات تؤكد أهمية وقيمة العقل والتفكير، مثل: «أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ»، «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ»، «أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ»، «أَفَلَا يَعْقِلُونَ»؟ وكل هذا يدل على أن العقل خُلِقَ لكى يُفكر فى كل صغيرة وكبيرة فى حياة الإنسان، أى أن المواقف مهما كانت بساطتها فلا بد أن تمر على فلتر العقل لكى يُعطيها تصريح الإجازة، أما لو كررنا الكلمات دون أن نعى مدلولها، وروينا الحكايات والأساطير، دون أن نعود إلى جُذورها وأصولها، واعتمدنا المواقف دون أن نقف على مدى صدقها، فهنا لن يُؤدى العقل مهامه التى أوكلت إليه منذ بدء الخليقة.
فأذكر قصة تناقلتها الأجيال، وبنت عليها الأحاديث والروايات والأساطير فى أحد البلدان قديمًا، دون أن يُحاول مَنْ تناقلوها أن يعودوا إلى أصلها التاريخى.
فقد كان أحد المُعلمين الروحانيين كلما جلس لصلاة المساء فى المعبد، جاءت قطة المعبد وسط المصلين وألهتهم عن صلاتهم، لذا أمر المُعلم بربطها أثناء الصلاة، ومع مرور الأيام أصبح ربط تلك القطة عند صلاة المساء عادة يومية، وبعد وفاة المعلم، ظل الطلاب يربطون القطة أثناء صلاة المساء، والمُضحك أنه عندما ماتت القطة بعد سنوات، أتى الطلاب بقطة أخرى إلى المعبد، حتى تُربط، اعتمادًا على ما صارت عليه العادة طوال مدة الصلاة، وبعد ذلك بقرون طويلة تبين أنه قد كتب بعض العلماء من تلاميذ المعلم نفسه رسائل فقهية مُفصلة فى المعنى الشعائرى لربط قطة أثناء إقامة الصلاة.
فأزمة العادات الموروثة أننا نُسلم بها دون تفكير، ونظل نتداولها أجيالًا وراء أجيال بشكل تلقائى، وكأنها من الأمور المسلَّم بها، وأحيانًا يصل بنا الأمر إلى حد تلفيق الأساطير عنها، حتى نُعطيها المصداقية النفسية، وهنا يتوقف العقل تلقائيًا عن التفكير، والبحث والتنقيب، ويُسلم بتلك العادة كنوع من أنواع الرضوخ لأعراف المُجتمع.
ولا خلاف على أن ذلك لا يُساير العقل، فدور العقل هنا أن يرفض الانصياع خلف أى عادة، دون معرفة أصلها وفحواها، والأهم من ذلك ألا نضع أى حادث فى قائمة التراث، دون معرفة أساسه وتاريخه، وللأسف الشديد، لو قررنا التنقيب خلف كل عادة موروثة اعتبرناها من التراث الشعبى، أو الدينى، أو التاريخى، ربما سنكتشف أن أغلب تلك العادات لم يكن له أى مدلول تراثى، أو سبب علمى، أو تأصيلى، ولكننا رغم ذلك قدسناها لسنوات بشكل مُتوارث. والواقع أن تلك القُدْسية كان مناطها التكرار، وليس منطقية الحدث.