رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الباحث اللبنانى حسن عجمى: التعصب الدينى ينسف الحضارة و«اليقين المطلق» سبب انتشار الجماعات الإرهابية الآن

الباحث اللبنانى حسن
الباحث اللبنانى حسن عجمى

ينطلق الباحث والشاعر اللبنانى حسن عجمى فى أطروحاته الفكريّة من مُنطلقات فلسفيّة تستند إلى أدوات معرفيّة متنوعة استطاع عبر توظيفها تقديم مقاربات جديدة فى الفكر والثقافة على المستويين العربى والعالمى، فى جهد بحثى ثرى منثور فيما يربو على عشرين كتابًا بالعربية والإنجليزية بين الفلسفة والشعر، على رأسها سلسلة كتب تقدم أطروحات مترابطة بدرجة كبيرة تهدف إلى مساءلة العديد من الإشكالات الفكريّة، على رأسها قضية التخلف الحضارى فى العالم العربى؛ هى «السوبر حداثة»، «السوبر مستقبلية»، «السوبر أصولية»، «السوبر معلوماتية»، «السوبر تخلف»، «السوبر مثالية».
من جهة أخرى، ثمة جهد نظرى لافت للباحث اللبنانى فيما يتعلق بإشكاليات الشعر وقضاياه، يستحق التوقف أمامه، جهد يستند إلى إيمان بضرورة عدم الفصل بين الميادين الإبداعية المختلفة من آداب وعلوم وفلسفة، وأهمية انصهارها فى بوتقة واحدة، وإلى كتاباته الشعرية وآرائه النقدية فيما يخص واقع الشعر العربى وما ينبغى أن يكون عليه.
«الدستور» حاورت الباحث اللبنانى حول أطروحاته الفكرية المرتكزة على رؤية فلسفية لافتة يطرق من خلالها العديد من الإشكاليات المتجذرة.


■ لك عدد من الكتب اتخذت لها عنوان «السوبر».. كيف كانت بداية فكرة تلك السلسلة؟ وهل هذا تعبير فى الأساس عن تدهور الحالة العربية عما هى موصوفة به من تخلف وأصولية ورجعية؟
- بداية فكرة تلك السلسلة هى الرغبة الفلسفية للخروج من الحداثة وما بعد الحداثة وتقديم ما هو مختلف عنهما، وبذلك نشأت لدى فكرة السوبر حداثة التى تتجاوز الحداثة وما بعدها. تتكون سلسلة «السوبرات» من كتب عديدة، منها «السوبر حداثة» و«السوبر مستقبلية» و«السوبر أصولية» و«السوبر تخلّف». جزء من السلسلة تعبير عن التخلف السائد فى العالم العربى وتفسير لأسبابه، وأجزاء أخرى منها تهدف إلى تفسير الظواهر وتحليل المفاهيم فلسفيًا.
ترتبط كل هذه المشاريع الفلسفية السابقة التى أصدرتها والحالية التى سوف أصدرها فيما بينها، فمثلًا تعتبر السوبر حداثة أن الكون غير محدد، ورغم ذلك من الممكن معرفته، ما يجعلها تختلف عن الحداثة القائلة بـمحددية الكون وإمكانية معرفته وما بعد الحداثة القائلة بلا محددية الكون وعدم إمكانية معرفته. فللسوبر حداثة قدرات تفسيرية عديدة وناجحة، بما أنَّ الكون غير محدد ما هو، إذن من المتوقع أن تنجح نظريات علمية عديدة فى وصف الكون وتفسيره رغم اختلافها وتعارضها كنجاح نظرية النسبية لأينشتاين القائلة بأن قوانين الطبيعة حتمية، ونجاح نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية القائلة بأن قوانين الكون احتمالية وليست حتمية.
هكذا تفسر السوبر حداثة نجاح النظريات العلمية رغم الاختلاف فيما بينها. وإن كان الكون غير محدد كما تقول السوبر حداثة، فحينئذ من المتوقع أن تصبح الحقائق محددة فى المستقبل فقط، فتتخذ ماهياتها فى المستقبل الذى لم يتحقق بعد، وبذلك يبدأ التاريخ من المستقبل كما تؤكد السوبر مستقبلية. هذا مثل على الارتباط المنطقى لهذا المشروع الفلسفى.
■ فى كتابك «السوبر أصولية» قلت إن «التراث غير موجود بشكل مستقل عنا، بل يعتمد على وجودنا، الشعوب المتخلفة لديها تراث متخلف والشعوب المتقدمة لديها تراث متقدم».. هل من الممكن أن تقود القراءات المختلفة للتراث إلى هذه النتيجة القطعية؟ أليس التراث حاملًا وقائع ثابتة، ربما تثبت عكس تلك النتيجة فى بعض أوجهها؟
- جوهر السوبر أصولية كفلسفة مغايرة للأصولية والحداثة هو التحرر من الأصول الثابتة والمطلقة المحددة فى الماضى، واعتبار الأصول الدينية وتفاصيلها محددة فقط فى المستقبل على ضوء دراستنا للدين، اعتمادًا على المنطق والعلم والفلسفة. وبذلك تؤكد السوبر أصولية أننا نحن من نصنع التراث، كالتراث الدينى، فإن كنا متطورين تطور تراثنا، وإن كنا متخلفين تخلف تراثنا.
هذا يتضمن قبول تطوير الأديان بتطوير فهمنا لها. فكل الوقائع والأفكار الدينية متغيرة فى الحاضر والماضى، وإلا أصبحت ثابتة ومطلقة كثبوت الله ومطلقيته، ما يناقض الإيمان بالتوحيد. إذا اعتبرنا أن الأفكار الدينية ثابتة ومطلقة، فحينها سوف تصبح هذه الأفكار آلهة كالله الثابت المطلق، فنكون بذلك قد أشركنا بالله. أما القراءات المختلفة للتراث نفسه، فخير دليل على أن التراث من صنعنا ما يحرر التراث ويحررنا فى آن.
■ تعرضت لدور فلسفة اللغة فى تشكيل المذاهب الدينية المختلفة فى كل الأديان.. كيف يمكن أن يكون لتلك الوجهة أثرها فى خلخلة بنية التعصب الدينى؟ ولِم لا يزال الخطاب الدينى السائد برأيك متمسكًا بقراءات أحادية للدين؟
- فلسفة اللغة هى المحور الأساسى الذى على ضوئه تُبنَى المذاهب الفكرية والدينية المتنوّعة. وبذلك الخلاف العقائدى ضمن الدين نفسه وبين الأديان المتعدّدة هو خلاف فلسفى، ما يبرر ويحتم منطقيًا عدم التعصُب لمذهب دون آخر وعدم معاداة مذاهب الآخرين ما يؤسس للسلام الأهلى. مثال على محورية فلسفة اللغة التالى: بالنسبة إلى ابن سينا، المعنى هو الذى تدركه النفس، وبذلك معانى الدين هى ما تدركه النفوس، ما يؤدى إلى قبول التأويل الباطنى للدين، فمن الممكن إدراك المعانى الدينية من خلال أفكار فلسفية أو صوفية، ما يحتم نشوء التأويل الباطنى. وهذا يفسر خوض ابن سينا فى التأويل الباطنى للإسلام.
من جهة أخرى، ابن تيمية يعتبر أن السياق هو الذى يحدد المعنى، وبذلك من المتوقع أن يفسر الإسلام من خلال سياقه، فيقبل بالتفسير الظاهرى للدين بدلًا من قبول التأويل الباطنى. وما زلنا سجناء قراءات أحادية للدين من جراء سيادة السوبر تخلف الكامن فى اعتقادنا الراسخ بأن معتقداتنا يقينيات ثابتة ومطلقة غير قابلة للتغيير والاستبدال أو التطوّر، ما يؤدى إلى رفض الآخرين المختلفين عنا فيما يعتقدون فيؤسس للفتن والحروب الطائفية والأهلية.
■ فى كتابك «السوبر تخلف» قلت إن الشعب المتخلف هو الشعب الذى لا ينتج ما هو مفيد للبشرية وللعالم، أما الشعب السوبر متخلف فهو الشعب الذى يطور التخلف.. كيف طور العرب والمسلمون فى عالم اليوم ذلك «السوبر تخلف» الذى أشرت إليه؟
- السوبر تخلف هو تطوير التخلف من خلال تقديم العلم على أنه جهل، وتقديم الجهل على أنه علم. ولقد أتقنا نحن العرب صياغة السوبر تخلف، لكنه اليوم يسود أيضًا فى الغرب. أمسى السوبر تخلف جائحة سائدة فى الشرق والغرب معًا، وهو أخطر من جائحة كورونا، لأنه يصيب العقل والسلوك فيحولهما إلى فيروسات متنقلة تقتل العقل العلمى والمنطقى، كما تقتل المشاعر الإنسانية والقيم من خلال التعصب ليقينياتنا المخادعة. والعرب والمسلمون طوروا السوبر تخلف من خلال تكريس الجهل على أنه علم وتكريس العلم على أنه جهل.
على سبيل المثال، انتشار الاعتقاد فى نظرية المؤامرة فى العالم العربى والإسلامى خير دليل على سيادة السوبر تخلف. فنظرية المؤامرة نظرية غير علمية، لأنه من المستحيل اختبارها على ضوء أى وقائع، بينما العلم هو القابل للاختبار. لكن العديد من العرب والمسلمين يقدمون نظرية المؤامرة على أنها علم صادق، بينما فى الحقيقة هى نظرية جهل وتجهيل لكونها غير علمية.
كما يشارك العديد من وسائل الإعلام والقنوات التليفزيونية الفضائية منها والمحلية فى العالم العربى والإسلامى فى نشر الجهل والتجهيل ودعم سيادة السوبر تخلف من خلال بث برامج تقدم الجهل كعلم، كبرامج التنجيم والأبراج والتنبؤ الخرافى بالمستقبل، بالإضافة إلى نشر التعصب والكراهية والاقتتال بين العرب والترويج للفتن الطائفية.
إنه زمن سيادة نشر الفتن والحروب، وهذا جزء لا يتجزأ من السوبر تخلف الكامن فى التعصب ليقينيات معينة التى تحتم رفض الآخر، فتؤدى، لا محالة، إلى الحروب فى عالمنا العربى والإسلامى التى تدمر إنسانية كل إنسان.
■ صغت فى الكتاب ذاته معادلة تربط بين الإرهابين الشرقى والغربى والعلاقة مع التكنولوجيا والعلم.. لمَ جاء هذا الربط؟ وما الذى يفرق الإرهاب فى الشرق عنه فى الغرب برأيك؟
- للسوبر تخلف معادلة أساسية تربط بين التخلف والتكنولوجيا والعِلم، والهدف منها تفسير نشوء التخلف وأسباب تطوره. هذه المعادلة هى التالية: التخلف يساوى التكنولوجيا مقسومة رياضيًا على العلم، وبذلك إذا ازداد استخدامنا واعتمادنا على التكنولوجيا وتناقص قبولنا للعلم والمشاركة فى إنتاجه، فحينها يزداد التخلف ويتطور. وهذا ما حدث معنا نحن العرب، فحين ازداد استعمالنا للتكنولوجيا، ولكن تناقص قبولنا للعلم والمشاركة فى صياغته، وقعنا حينئذ فى السوبر تخلف فازداد تخلفنا.
من جهة أخرى، عادة ما تمارس الدول الغربية إرهابها من خلال استغلال الشعوب والدول الأخرى واستعبادها، إما من خلال استعمارها عسكريًا أو استعمارها اقتصاديًا وثقافيًا أو استعمارها بكل تلك الأساليب الإرهابية معًا.
أما إرهاب الشرق، وبالأخص إرهاب الشرق الأوسط، فمعظمه إرهاب جماعات وأحزاب وطوائف بدلًا من إرهاب دول، لكن مصدر الإرهاب الغربى والشرقى مصدر واحد ألا وهو السوبر تخلف الكامن فى اعتبار معتقداتنا يقينيات لا تقبل الشك والمراجعة، ما يدفعنا إلى التعصب لها ورفض الآخرين واغتيالهم.
ويمكن اعتبار «الترامبية» مثالًا واضحًا على سيادة السوبر تخلُّف، فالتعصب الدينى والطائفى والعِرقى سيد ما يُدعَى بالحضارة الآن ما حوّل المجتمعات إلى جماعات متقاتلة ونسف دعامات الحضارة الحقة والحقيقية، وهذا ما يصدق فى الشرق والغرب معًا.
■ إلى أى مدى تظن أن جائحة كورونا كشفت عن معضلة «السوبر تخلف» فى النظام العالمى الحالى؟
- النظام العالمى الحالى هو نظام الفوضى واللا مساواة والضجيج؛ لأنه مبنى على السوبر تخلّف الكامن فى التمييز بين البشر ونشر الجهل والتعصب، فالدول والشعوب المنقسمة والمتقاتلة فيما بينها دلالة على سوبر تخلفنا من جراء رفض ما يقوله العِلم من وحدة البشرية فإن انقسمت انهارت وزالت، فالأرض وما عليها وما فيها كينونة حية واحدة لا تتجزأ.
لقد كشفت جائحة كورونا العورة الأساسية للنظام العالمى المُهيمن ألا وهى عورة السوبر تخلف، فمثلًا جائحة كورونا طوّرت مناهج التفكير الخرافى القائمة على نظريات المؤامرة ما زاد من تخلّف العديد من الأمم والشعوب، وهذا هو التغيير المصاحب لجائحة كورونا ألا وهو تطوير الفكر اللا علمى فتطوير التخلّف.
■ تحدثت عن العلمانية وأهميتها لكل مجتمع فى كتابك «الفلسفة الإنسانوية».. بم تفسر العداء العربى والنظرة السلبية لأى توجه علمانى.. هل جاء ذلك بسبب بنية راسخة من التخلف أم هو رد فعل على ممارسات فعلية متطرفة وعدائية إزاء المعتقدات الدينية السائدة؟
- فى كتابى «الفلسفة الإنسانوية: العلمنالوجيا والعقلنالوجيا» أوضحت المضامين الإنسانوية الأساسية التى تؤكد وحدة البشر ووحدة الأديان والثقافات ووحدة المذاهب الفلسفية بغرض تحقيق السلام الأهلى من خلال رفض فلسفة الثنائيات التى تميّز بين الأنا والآخر، والعلمنالوجيا والعقلنالوجيا دعامتا الإنسانوية.
فالعلمنالوجيا «أى علم العلمنة» مفادها علمنة الظواهر من خلال فصلها عن ماهياتها المحددة سلفًا ما يضمن تحرّرنا من محددية الظواهر والحقائق، بينما العقلنالوجيا «أى علم العقلنة» فمفادها عقلنة الظواهر من خلال تحليلها على أنها قرارات إنسانوية عقلانية مستقبلية معتمدة فى تكوّنها على الإنسان نفسه، ما يتضمن ويضمن محورية الوجود الإنسانى ودوره الفعّال فى صياغة الوقائع والحقائق ومعانيها.
أما العدائية فى العالم العربى تجاه العلمانية والديمقراطية أيضًا، فمصدرها السوبر تخلّف المتمثل فى هذا السياق بعدم فهم المفاهيم فهمًا حقيقيًا، فالاتجاه السائد فى العالم العربى هو تصوير العلمانية على أنها معادية للدين، بينما فى الحقيقة العلمانية هى فصل الدين عن الدولة وبذلك العلمانية ضمانة عدم استغلال الدين لمصالح سياسية واقتصادية، هكذا العلمانية نصيرة الدين وليست عدوته، ولكن فهمنا الخاطئ للعلمانية على أنها نقيض الدين أساس رفض العديد من العرب للعلمانية.
أما الديمقراطية فهى حُكم الحقوق الإنسانية كالحريات والمساواة أمام القانون والمساواة الاجتماعية والاقتصادية، بينما معظم العرب يظنون أنَّ الديمقراطية مجرد انتخاب ممثلى الشعب ورئيس الدولة ما يشوّه مفهوم الديمقراطية ونظامها، العلمانية والديمقراطية وجهان لعملة واحدة لا تتجزأ، فلا ديمقراطية بلا حقوق إنسانية تضمنها العلمانية من خلال فصل الدين عن الدولة فاعتبار كل مواطن كينونة وقيمة مستقلة فى حدّ ذاتها بمعزل عما يعتقد، بالعلمانية نحرّر الدين ونتحرّر، وبالديمقراطية نتطوّر بفضل الحريات والمساواة التى تضمن الإنتاج والابتكار والإبداع، لا حضارة حقيقية بلا حريات ومساواة.
■ قلت إن «الدين قرار إنسانوى مستقبلى يتمحور حول فهم ما يُعتبر وحيًا على ضوء الواقع والمنطق والتفكير الفلسفى الموضوعى والعلوم والمعارف والقيم الإنسانية».. إلى أى مدى تمثل تلك الفكرة برأيك ركيزة للانعتاق من أزمات المجتمعات العربية فى الوقت الراهن؟
- تحليل الدين على أنه قرار إنسانوى مستقبلى حول ما يعتبر وحيًا على ضوء العِلم والمعارف والقيم هو الركيزة الأساسية للانعتاق من أزمات الحضارة العربية؛ لأنَّ هذا التحليل يحرّر الدين مما فُرِض عليه فى الماضى، ويجعله حيًا بالفعل من خلال استلزام التفكير فيه وتفسيره وتأويله على ضوء القرارات الإنسانوية المستقبلية المعتمدة على التفكير العلمى والقيم الإنسانية، وبذلك يحرّرنا هذا التحليل من الفكر الماضوى وسلوكياته كما يدفع بنا إلى تطوير الفكر الدينى على أساس ما نكتشف من نماذج ومبادئ وقيم جديدة فى المستقبل.
كل هذا يضمن التطوّر من خلال التحرّر من سجون الماضى والمشاركة فى إنتاج فكر مبتكر وفلسفات وعلوم جديدة، الأديان المُقيَّدة بقيود الماضى أديان ميتة، حين نعتبر أنَّ الدين قرار إنسانوى مستقبلى أى يتشكّل فى المستقبل على ضوء القيم والمعارف الإنسانية التى ننتجها، فعندئذٍ يتكون الدين على أساس ما ننتج وما سوف ننتج من قيم ومعارف فنضمن التحرر من الفهم الماضوى للدين.
■ هل من سبيل لتخليص المجتمعات العربية مما سميّته «السوبر ماضوية» والانطلاق نحو تعزيز التفكير العلمى؟
- من الممكن التحرر من السوبر ماضوية وذلك من خلال اتباع وتطوير فلسفات معيّنة كالفلسفة السوبر مستقبلية، السوبر ماضوية هى أن يبدأ التاريخ من الماضى ويتجه نحو الماضى وينتهى فيه، بينما السوبر مستقبلية تؤكد أن التاريخ يبدأ من المستقبل فتتكوّن الحقائق والظواهر والمعانى فى المستقبل، كأن تكون الحقيقة قرارًا علميًا فى المستقبل.
نحن العرب «سوبر ماضويون» لأننا نبدأ من الماضى وننتهى فيه، ولكى نتجنب هذه الكارثة الحضارية التى تسجن عقولنا وسلوكياتنا فى نماذج فكرية وسلوكية ماضوية لا بد من اعتماد السوبر مستقبلية التى تدفع بنا إلى التحرر من الماضى، وإعادة صياغته على ضوء قراراتنا العلمية المستقبلية، وبناء مستقبل على أساس قراراتنا الإنسانوية القائمة على الحقوق والمبادئ العالمية كالحريات والمساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الجميع.
السوبر مستقبلية تضمن الخلاص من السوبر ماضوية؛ لأنها تضمن قبول العِلم والمشاركة فى إنتاج العلوم ما يحرّرنا من السوبر ماضوية، فالسوبر مستقبلية تقول إنَّ المعنى قرار اجتماعى فى المستقبل، بينما الحقيقة قرار علمى فى المستقبل، وبذلك الحقائق معتمدة على العِلم الذى سوف ننتجه بينما المعانى معتمدة على قراراتنا الاجتماعية المستقبلية التى من ضمنها القرارات العلمية، هكذا تضمن السوبر مستقبلية الخلاص من السوبر ماضوية من خلال العِلم وسيادته.
■ تطرقت لما سميّته «ارتفاع معدل اللا معنى فى عباراتنا» من خلال الحديث عن واقع الأدب والشعر العربى الحديث، منتقدًا العديد من الصور الشعرية فى الشعر العربى كشعر محمود درويش وأدونيس.. لِم الإصرار على فكرة دخول العلم إلى الشعر؟ أليس دور الشعر القفز على المنطق والارتكاز على جموح الخيال وهو ما يصنع من الصور الشعرية تميُزها؟
- معظم الشِعر العربى بلا سياق وبلا قصد ومقاصد ما جعله خاليًا من المعنى. الآداب ومن ضمنها الشِعر معتمدة على الخيال ولكن العِلم أيضًا يعتمد على الخيال المتضمن لقضايا ومفاهيم علمية، فمثلًا قول أينشتاين «الله لا يلعب بالنرد» قول خيالى يصوّر الله على أنه لا يقامر بالنرد، ويتضمن أنَّ قوانين الطبيعة حتمية وليست احتمالية تمامًا، كما قال الفيزيائى ستيفن هوكنغ «الله يلعب بالنرد ويرمى النرد حيث لا نراه» يعتمد على الخيال، ويتضمن قبول أنَّ قوانين الطبيعة احتمالية، وليست حتمية على نقيض من قول أينشتاين.
هكذا العلم يعتمد على الخيال تمامًا كالأدب والشِعر، فالعقل البشرى واحد لا يتجزأ وهو مصدر المشاعر أيضًا، العقل والشعور كينونة واحدة لا تنفصل، فمشاعرنا تتأثر بما نفكّر والعكس صحيح بكلامٍ آخر، تتكوّن المشاعر على ضوء ما يجرى فى عقولنا تمامًا كما أنَّ ما نفكّر فيه يتشكّل من مشاعرنا أيضًا، من هنا الفصل بين الميادين الإبداعية المختلفة كالأدب والعِلم والفلسفة فصل كاذب ومخادع، بل كل الحقول الإبداعية كالآداب والفنون والعلوم والفلسفة تشكل حقلًا إبداعيًا ومعرفيًا واحدًا يستحيل الفصل فيما بينها، ولذلك الشعوب المتطوّرة فى آدابها متطوّرة أيضًا فى علومها والعكس صحيح.
من هذا المنطلق، اعتماد الشِعر العربى على اللعب على الكلمات وجمع ما لا يُجمَع منطقيًا وعقلانيًا من مفاهيم بدلًا من بناء المعانى ضمن سياقات هادفة ذات مقاصد فكرية وفلسفية وعلمية ومنطقية، هو اعتماد على السوبر تخلّف القائم على الجهل والتجهيل من خلال صياغة عبارات بلا معانٍ.