رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

داليا مجدى عبدالغنى تكتب: شتات الهوية

داليا مجدى عبدالغنى
داليا مجدى عبدالغنى

الهوية هى كيان الإنسان وكينونته، فهى ما نُورثه لا ما نرثه، ومَنْ يعش دون هوية فهو فى الواقع كتب شهادة وفاته، رغم أن جسده لا يزال يتحرك، وقلبه لا يزال ينبض، ولكن لن تكون هناك روح ذات ميراث ثقافى حقيقى بداخله، وللأسف، نحن فى الآونة الأخيرة سقطنا فى فخ محاولة طمس الهوية، فمجرد استيراد سلوكيات وأفكار من الخارج، ومحاولة محاكاتها والتقيد بها دليل على أننا نطمس هويتنا دون وعى منا.
فالإنسان ترتبط هويته بعادات وتقاليد وموروثات مجتمعه، والمقصود بتلك الموروثات ما هو إيجابى منها، وفيه حث على التطور والتقدم والرقى، والحقيقة أن الغالبية العظمى من البشر يظنون أن كل الموروثات المجتمعية تُحرِّض على التأخر، وتعود بهم إلى الوراء، ولكن الأمر فى واقعه ينم عن شىء آخر، فالموروث هو المخزون الحضارى والثقافى الذى يستقيه الإنسان أثناء تنشئته، وعليه تتكون شخصيته وتتبلور، حتى تصبح له هوية يستطيع أن يظهر بها أمام جميع المجتمعات، ويجابه بها كل الثقافات الأخرى.
ولكن للأسف، مجرد التأثر الشديد بالثقافات الأخرى، خاصة الثقافات الشكلية التى لا تضيف إلى هوية الإنسان أو تثقله نفسيًا، أو ثقافيًا، أو حضاريًا، بل على العكس، فإنها تعمل على مضيعة وقته، وبلبلة أفكاره، وزلزلة كيانه، وطمس هويته، فالخطأ الذى نقع فيه دون وعى هو محاكاة الثقافات الأخرى فى الكثير من سلوكياتها، ظنًا منا أن هذا نوع من أنواع التقدم والتطور الحضارى.
فالمحاكاة فى المظهر الخارجى، وفى استخدام الألفاظ الخادشة للحياء، والاهتمام بالشكليات على حساب المضمون، ينال من بنية الإنسان الفكرية، وتلك المحاكاة وصلت إلى الأدب والدراما، وكل مناحى الحياة، إما رغبة فى التطور المفتعل، أو ظنًا بأن كل ما يأتى من الخارج هو الأفضل على الإطلاق.
ولكننا لو ترقبنا تاريخنا وحضارتنا وإبداعنا، فسنجد أننا نملك تاريخًا عريقًا، يدلل على أننا أصحاب الريادة فى شتى المجالات، ولكن ما جعلنا نتراجع هو اختلاط الهويات لدينا، وحالة التأرجح التى انتابتنا مؤخرًا، بسبب صراعنا بين المخزون الثقافى الذى توارثناه، وسنظل نورثه، وبين الانبهار الذى ينتابنا بسبب التطور التكنولوجى والتقنى الذى توصل إليه الآخرون. فهذا الصراع لا بد أن يخلق حالة من عدم التوازن والخلل فى المجتمع، خاصة فى الأجيال الجديدة، وبالتبعية سيؤثر هذا على مدى انتمائهم لثقافتهم، ومدى قدرتهم على الإبداع وإظهار الطاقات المشتعلة بداخلهم، بسبب الشتات الفكرى والنفسى الذى يتصارع بداخلهم، فالرغبة الملحة فى محاكاة الغرب، وسلوك التقليد الأعمى الذى يصل إلى حد اختيار الألفاظ غير اللائقة، ومضيعة الوقت على وسائل التواصل الاجتماعى، من أجل الوقوف على الأفكار السلبية التى تبثها الكثير من المواقع، التى تستهدف عقول الشباب، لأنه من السهل التأثير عليهم، نظرًا لعدم اكتمال البنية الثقافية والمخزون الخبراتى لديهم، ما يسهل معه طمس هويتهم، حتى تذوب تمامًا فى هويات الثقافات الأخرى.
وهنا يصبح الإنسان عبارة عن خليط بين ما نشأ وترعرع عليه، وبين ما استجد واستحدث بداخله، بسبب فضوله وشغفه بكل ما هو مستورد من الخارج، وكل هذا لا يعنى أننا نشجب ونرفض الثقافات الأخرى، ولكن علينا أن نستورد كل ما هو إيجابى، وأن نستخدمه ونوظفه فى الاتجاه الذى يواكب ويلائم أفكارنا وثقافتنا، حتى نحتفظ بهويتنا الإنسانية والوطنية.
فالإنسان الذى يحافظ على هويته، سيظل جالسًا على القمة، لأن الهوية هى أكبر دليل على العزة والكرامة، والثقة فى النفس، والانتماء للوطن، فلو تحقق كل هذا ستتحقق الريادة، التى ينشدها كل إنسان، وكل دولة، وكل وطن.