رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصير «سد النهضة» وحركة تحرير «بنى شنقول» «٢-٢»


أوضحنا فى مقال الجمعة الماضى «أزمة سد النهضة والحرب بين القوميات الإثيوبية» أن الصراع المحتدم بين القوميات العرقية قد اتسع وتجاوز الحدود، ففلاحو قومية الأمهرة تسللوا إلى السودان منذ ٢٥ عامًا، واستوطنوا منطقتى الفشقة «الكبرى والصغرى»، وهما إحدى المحليات الخمس لولاية القضارف شرق السودان، تضمنتا نحو ٢ مليون فدان من أخصب أراضى العالم، لأنهما «أشباه جزر» تحيط بهما الأنهار والمجارى المائية.. معاهدة ١٩٠٢ بين إثيوبيا وبريطانيا العظمى التى كانت تستعمر السودان آنذاك، قامت بترسيم الحدود، وقننت تبعية المنطقتين للسودان، لكن الوضع على الأرض كان مريبًا.

الإثيوبيون زرعوا الأرض بالمشاركة مع ملاكها السودانيين، وشكلوا ميليشيات مسلحة لتأمينها، ما أخل بالأوضاع الأمنية، وتسبب فى هجرة أصحاب الأرض للداخل السودانى، بعد تحويل عقود المشاركة إلى عقود إجارة للإثيوبيين، لكن غيابهم شجع الأمهرة على التوقف عن سداد الإيجار، وفرض أمر واقع دعمته الحكومة الإثيوبية، بإدخال الخدمات إلى المنطقة. حفرت الآبار وشقت الطرق وشيدت بعض الصناعات التحويلية الصغيرة، فى الوقت الذى أهملتها الحكومات السودانية المتعاقبة!!.. عمليات الاستيطان تعاظمت بعد ١٩٩٦، فى أعقاب الاتفاق الزراعى غير المعلن، الذى وقعه والى القضارف «الشريف أحمد عمر بدر» مع إثيوبيا.

قومية الأمهرة دعمت أبى أحمد فى التخلص من سيطرة التيجراى على الحكم، ثم خاضت معه الحرب ضد انشقاق إقليمهم، بقادتها العسكريين ومقاتليها النظاميين وميليشياتها المسلحة، ما سمح بحسمها بسرعة، مما شجعها على تصعيد مواجهاتها مع السودان فى منطقة الفشقة، حيث يستولى مزارعوها على قرابة مليون فدان، ومع عشائر «بنى شنقول» أبناء محافظة «سد النهضة»، طمعًا فى ثرواتها من الذهب والمعادن.

السودان استغل تورط النظام الإثيوبى والأمهرة فى حرب تيجراى، واستعاد أراضى الفشقة، الجيش الإثيوبى لم يرد، لكن ميليشيات الأمهرة نصبت كمينًا لعدد من جنود الجيش السودانى، وقامت بعمليات قصف، ما دعاه لإعادة نشر قواته فى المنطقة، وتطهيرها من الميليشيات، وطرد الإثيوبيين المقيمين بصورة غير شرعية.

الأمهرة ضغطوا على أبى أحمد لمواجهة السودان، لكنه يواجه انتقادات قوية، فالتيجراى يرفضون الاعتراف بشرعيته، وباقى القوميات تطالبه بـ«استعادة أمجاد إثيوبيا»، والتأكيد أن «النيل نهر إثيوبى»، وحرب تيجراى لم تنتهِ بعد، لذلك حاول تبرئة نفسه أمام البرلمان، متهمًا الحكومة الإثيوبية السابقة بالاعتراف للسودان عام ١٩٧٢ بأراضٍ إثيوبية!!، المؤسسات الرسمية اعتبرته تصريحًا بالهجوم على السودان، والادعاء بأنه استجاب للتحريض المصرى.. الأمهرة يرفضون أى حل لا يكفل استيلاءهم على الفشقة، أو إيجاد صيغة تضمن بقاءهم فيها، ولو كمزارعين موسميين، على نحو ما كان الحال زمن البشير.

قضية «سد النهضة» هى شغلنا الشاغل، وهى تتأثر بالمتغيرات الإقليمية.. التغيرات الأخيرة فى الموقف السودانى وانعكاساتها هى المتغير المحورى، فالموقف السودانى اتسم بالإيجابية منذ أن رفض التوقيع على اتفاق واشنطن فبراير ٢٠٢٠، تقديرًا لغياب إثيوبيا، ورغم توقيع مصر فإن أديس أبابا لم تثمِّن ذلك جيدًا، ونفذت الملء الأول للسد دون توافق معه، وتعاملت بوقاحة واستفزاز، رافضة الاعتراف بالاتفاقات التاريخية، خاصة اتفاق ١٩٠٢ التى حظرت إقامة أى منشآت على النيل الأزرق، فضلًا عن أن السودان لحقت به خسائر تقدر بين ٣ و٤ مليارات دولار فى سبتمبر ٢٠٢٠، عندما قامت إثيوبيا بالملء الأول لبحيرة السد، دون تنسيق معه، ما أدى إلى انحسار مفاجئ لنهر النيل، وخروج عدد من محطات الشرب عن الخدمة، ثم فتحت البوابات فجأة بعد سقوط الأمطار الغزيرة، دون تنسيق أيضًا، لتغرق الفيضانات العاتية الخرطوم وسنار والجيلى شمال السودان.

أبى أحمد فى مأزق حقيقى، فهو أمام خيارين.. الأول: خوض الحرب ضد السودان بما قد يترتب على ذلك من تبنى الخرطوم أنشطة جبهتى تحرير التيجراى وبنى شنقول، وفتح الحدود لتحركاتهما، ودعم مقاومتهما للنظام.. هذا البديل بتداعياته قد يؤدى إلى سقوط أبى أحمد.. الخيار الثانى: التفاهم مع السودان والإقرار بحقه فى استعادة أراضيه، وفرض سيادته عليها، وفقًا لما يكفله القانون الدولى واتفاق ترسيم الحدود لعام ١٩٠٢، لكن ذلك سيقلب عليه الأمهرة الذين يشكلون ٢٦٪ من سكان إثيوبيا.. أبى أحمد لا يرغب فى الحرب مع السودان، لأن الأوضاع الداخلية فى بلاده متأزمة، وقضية «سد النهضة» تمر بشهور بالغة الحساسية قبل الملء الثانى.. البدائل أمامه إما «حرب خاسرة»، أو «سقوط سياسى».. وعليه الاختيار.

السودان من جانبه يدرك أن استرداده أراضيه تم ضد الطبيعة التوسعية لإثيوبيا، وشكّل طعنة غائرة لكبريائها الوطنى، وهو على قناعة بأن أديس أبابا، تحت ضغط حكامها الأمهرة، ستعود لتهديد هذه الأراضى مستقبلًا، خاصة أن تبعيتها للسودان تستند إلى اتفاق ١٩٠٢، الذى ترفض إثيوبيا الاعتراف به باعتباره تراثًا استعماريًا، يمنعها من بناء أى منشآت على النيل الأزرق، دون موافقة مصر والسودان.. الحكومة السودانية بعد أن استعادت أراضيها السليبة فى الفشقة، بدأت فى تصعيد موقفها من قضية «سد النهضة».

السودان أكد فى ٢٤ يناير ٢٠٢١، أنه «لن يسمح بملء وتشغيل السد دون اتفاق قانونى ملزم»، وأبلغ السفراء المعتمدين بالخرطوم بذلك، مبررًا بأن السد يشكل تهديدًا مباشرًا على خزان الروصيرص، وحياة ٢٠ مليون سودانى.. وزير خارجية مصر سامح شكرى أكد: «لن نقبل وقوع نهر النيل رهينة لمساعى البعض لفرض هيمنته عليه، ولن ننجرف فى مناورة أو محاولات فرض الأمر الواقع».. هذا الموقف المشترك يؤكد أن الدولتين لن تسمحا بتكرار ما جرى من جانب إثيوبيا عند الملء الأول بقرار فردى، كما لن تسمحا لها بفرض سياسة الأمر الواقع، خاصة أن الملء الثانى سيصل إلى نحو ١٣ مليار متر مكعب أى قرابة ثلاثة أضعاف حجم الملء الأول.. السودان ومصر يعتزمان الرد بحسم على الاستخفاف الإثيوبى بالاتفاقات والقوانين الدولية، وتجاهل حقوق دول الجوار فى حماية مواطنيها من الأخطار الداهمة، التى يمثلها احتمال انهيار السد.. هذا الأمر ينبغى أن تأخده إثيوبيا بكل الجدية، فخطورة الأزمة لا تحتمل استمرار المكابرة والعناد، ولا يجوز معها الاستهتار.

عشرات السدود فى العالم تعرضت للانهيار خلال السنوات الأخيرة، فى إفريقيا والولايات المتحدة نفسها، حيث أعلى مستوى من الأمان، فما بال سد النهضة وقد تم بناؤه على صخور بركانية ضعيفة، قُرب الأخدود الإفريقى العظيم، بمعدل أمان ١.٨ ريختر، مقارنة بـ٨ للسد العالى، مما يُنذر بأنشطة زلزالية، ناهيك عن أخطاء التصميم.. خبير الإنشاءات الألمانى بتقرير اللجنة الثلاثية الدولية أكد أن الرسومات الإنشائية معيبة وناقصة، ولا ترقى إلى بناء عمارة سكنية فى «هامبورج»، والخبراء الأمريكان رجّحوا انهياره خلال ١٠ سنوات لتدنى معامل الأمان.

الكثافة السكانية، وأعداد القوات، وقوة سلاح الطيران، وحجم وتطور المعدات، قد لا تعمل فى مجملها حاليًا لصالح السودان، فى المواجهة مع إثيوبيا، مما يكسب التحالف الاستراتيجى مع مصر فى هذه المرحلة أهمية خاصة، لأنه يفرض على إثيوبيا مراجعة نفسها ألف مرة قبل أن تقدم على مغامرة عسكرية.. خاصة أن تجاربها السابقة فى الصومال وإريتريا وتيجراى تُثبت عدوانية سياستها، وتفرض التحسب لتهديداتها.. الخرطوم خلال ذروة الحرب فى إقليم تيجراى نوفمبر ٢٠٢٠، أجرت مع مصر مناورات «نسور النيل- ١»، وهى أول تعاون عسكرى مشترك منذ استقبال السودان الكلية الحربية المصرية والقطع البحرية العاملة فى البحر الأحمر عقب حرب ١٩٦٧، وتزامن ذلك مع مناورات جوية مشتركة قرب قاعدة مروى السودانية شمال البلاد.. ذلك باكورة برنامج التعاون العسكرى، الذى يمثل رسالة ردع استراتيجية، تزامنت مع زيارة وفد قيادة الدفاع الجوى السودانى والمؤسسات الأكاديمية المتخصصة، والمواقع الميدانية، لتبادل الخبرات، كما استقبل الرئيس السيسى الوفد السودانى برئاسة عضو مجلس السيادة الانتقالى الفريق شمس الدين الكباشى ومدير جهاز المخابرات العامة الفريق جمال عبدالمجيد.. هى مرحلة تتموضع فيها الدولتان فى خندق واحد للدفاع عن حقوقهما المائية، ومواجهة الخطر الداهم الذى يمثله صلف إثيوبيا فى التعامل مع ملف السد.

محاولة تحريك الاضطرابات فى دارفور استهدفت الضغط على السودان للحد من إحكام سيطرته على الفشقة، ما يسمح بتشتيت قواته، توطئة لاستعادتها مستقبلًا، وهذا يعنى تقديرهم خطورة تصعيد السودان موقفه من الأزمة خلال المرحلة الراهنة. أبى أحمد اختير لجائزة نوبل للسلام باعتباره رجل الغرب القوى لحفظ الأمن والسلام فى القرن الإفريقى، وكذا بين القوميات العرقية المتصارعة، لكنه أصبح موضع انتقاد دولى بسبب جرائم قواته فى تيجراى، وضد القوميات الأخرى المعارضة، خاصة أن وصول بايدن للسلطة فى الولايات المتحدة يعكس دلالات مهمة، لأن الحزب الديمقراطى تاريخيًا يعتبر حليفًا لجبهة تحرير تيجراى، منذ إسقاطها النظام الشيوعى مطلع تسعينيات القرن الماضى.

الخرطوم قامت بتصفية متعلقات الأزمة مع واشنطن، مما يفسر زيارة السفير أندرو يونج نائب قائد القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا «أفريكوم» للخرطوم، لبحث سبل تعزيز العلاقات مع السودان.. أمريكا نددت بحرب تيجراى، وطالبت بوقف إطلاق النار واللجوء للمفاوضات، والكونجرس طالب بالانخراط المباشر فى الأزمة لتسويتها.. الاعتماد الأمريكى على السودان كبديل لإثيوبيا فيما يتعلق بقضايا الأمن والسلام بالمنطقة، عكسه استحداث قاعدة بحرية أمريكية مطلة على البحر الأحمر.. والحقيقة أن ذلك متغير يتيح قدرًا كبيرًا من المرونة، ويسمح بالمخاطرة المحسوبة فى التعامل مع أزمة السد، خاصة فى ظل انشغال الجميع بتداعيات تفشى فيروس كورونا، مما قد يُهيئ الساحة الإقليمية لتقديم دعم مباشر لتطلعات «حركة تحرير شعب بنى شنقول» فى الاستقلال بإقليمهم، وضمان سيطرتهم على السد، وهذا يسمح بتطبيق مبدأ حق تقرير المصير، ويوفر نطاق حيوى لحماية الأراضى السودانية المستردة فى الفشقة، ويوقف التهديد الإثيوبى باستكمال الجزء الأوسط من السد، توطئة للملء الثانى فى يونيو المقبل، وذلك دون الإقدام على عمل قد يواجه رفضًا دوليًا.

إثيوبيا وضعت مؤخرًا حجر الأساس لبناء سد جديد «أجيما تشاتشا» فى محافظة شوا بإقليم الأمهرا، وما لم يتم اتخاذ إجراء حاسم معها، فلن يمكن تحجيم عملية بناء سلسلة السدود المخطط لها على النيل الأزرق مستقبلًا.. كل الحسابات ترجح اختيار المخاطرة على الانزلاق لواقع مرير، لن يغيره ترديد بكائية «النيل مجاشى».