رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليبيا.. بين أطماع الإخوان وسراب التسوية السياسية


كان المفروض أن نستكمل الحلقة الثامنة من سلسلة «مصر وتهديدات دول الأطراف- إيران»، لكن التطورات على الساحة الليبية تتسارع، وتفرض نفسها بقوة.
بعثة الأمم المتحدة فى ليبيا تحركها أجهزة مخابرات غربية.. فرضت اتفاق الصخيرات عام ٢٠١٥، لتأسيس مجلس رئاسى يمكن توجيهه لتحقيق مصالحها، وفعَّلت دور «المؤتمر الوطنى» التابع للإخوان، باسم جديد «المجلس الأعلى للدولة»، رغم انتهاء ولايته.. لكن مجلس النواب رفض منح الثقة لحكومة السراج، فتعرضت للشلل، وعجز «المجلس» عن موازنة دور البرلمان، ما دعاه إلى «استقطاب» بعض النواب لإنشاء برلمان موازٍ فى طرابلس، لشلّ صلاحيات برلمان بنغازى، لكنه فشل.
البعثة الأممية نظمت «ملتقى الحوار السياسى الليبى» فى تونس، واستكملته فى طنجة المغربية، بهدف التوصل إلى توافق بين النواب على عقد جلسة للبرلمان مكتملة النصاب، للإطاحة بعقيلة صالح، رئيس البرلمان، المعروف بدعمه الجيش الوطنى، توطئة للإطاحة بخليفة حفتر، قائد الجيش، وتعيين رئيس للبرلمان مقرب من التيارات الإسلامية، وقد تردد اسم «سليمان سويكر» النائب عن «المرج» شرق البلاد، وهو أحد الموقعين على اتفاق الصخيرات.. الهدف التالى للخطة كان الاستحواذ على اللجان البرلمانية والمجلس الرئاسى والحكومة، ثم تمرير مشروع دستور ٢٠١٧، الذى يعكس توجهات الإخوان.. ولم يكن غريبًا أن يتماهى ذلك التوجه مع السعى التركى لعرقلة الحل السياسى وإجهاض مبادرة عقيلة صالح.

اجتماعات تونس
الملتقى انعقد فى تونس «٩ إلى ١٦ نوفمبر»، بمشاركة ٧٥ عضوًا، ٤٥ منهم محسوبون على الإخوان، بعثة الأمم المتحدة سمحت بالتصويت عبر الهاتف أو البريد الإلكترونى، للاختيار بين المقترحات المتعلقة بآلية اختيار سلطة المرحلة الانتقالية، مما أثار اعتراضات المطالبين بالتصويت المباشر، لكنهم اتفقوا على إجراء الانتخابات العامة فى ٢٤ ديسمبر ٢٠٢١، وإصلاح السلطة التنفيذية، وفق مخرجات مؤتمر برلين «تحديد هيكل واختصاصات المجلس الرئاسى، رئاسة الحكومة، ومعايير ترشيح شاغليهم».
التصويت تم على جولتين؛ الأولى لاختيار آلية واحدة من بين ١٠ بدائل طرحتها البعثة الأممية لاختيار أعضاء المجلس الرئاسى ورئيس الحكومة.. قام بالتصويت ٧١ نائبًا، ٣٩ منهم اختاروا الآلية الثانية، ٢٤ أيّدوا الآلية الثالثة، ٨ اختاروا الآلية العاشرة.. الآلية الثانية تقضى باختيار أعضاء المجلس الرئاسى «٣» بمعرفة الجلسة العامة لملتقى الحوار، من بين ستة مرشحين يختار كل إقليم «برقة، طرابلس، فزان» اثنين منهم، كما ينتخبون رئيس الحكومة على جولتى تصويت، وليس بالمجمعات الانتخابية.. المجلس الرئاسى يترأسه من ينتمى إلى الإقليم الأكثر عددًا المخالف لرئيس الوزراء.. هذه الآلية قد تُقصى فتحى باشاغا مرشح الإخوان لرئاسة الحكومة، الذى كان يعتمد على ثقله لدى مجمع الغرب الانتخابى، وربما تعوق سيطرة «الإخوان» على السلطة التنفيذية الجديدة.. الآلية الثالثة تنص على انتخاب كل إقليم ممثليه بالمجلس الرئاسى، وانتخاب رئيس الوزراء بمعرفة أعضاء الملتقى، شريطة حصوله على تزكية إقليمه، و٤ تزكيات من الجنوب، و٥ من الشرق، و٧ من طرابلس.
الجولة الثانية من التصويت اقتصرت على الاختيار بين الآليتين الثانية والثالثة، واستهدفت الوصول إلى توافق حول الآلية التى سيتم اعتمادها بنسبة ٧٥٪ من أصوات المشاركين، لكن ٢٣ عضوًا قاطعوا التصويت، وتوفى واحد، ولم يشارك سوى ٥٠ نائبًا، ٣٦ منهم وافقوا على اعتماد نسبة تصويت ٥٠+١ عن كل إقليم، و١٤ عضوًا صوتوا لصالح أغلبية الثلثين، وامتنع ٢١ عضوًا عن التصويت بسبب اعتراضهم على المقترحين، معتبرين أنه تم تفصيلهم على مقاس عقيلة صالح المرشح لترؤس المجلس الرئاسى.

اجتماع طنجة
الاجتماع التشاورى لمجلس النواب الليبى فى طنجة «٢٣ إلى ٢٨ نوفمبر»، كان الثانى بعد لقاء بوزنيقة.. المملكة المغربية منذ اتفاق الصخيرات، تتواصل مع القيادات الليبية الفاعلة، وزير خارجيتها حشد قرابة ١١٠ نواب شاركوا فى جلسات طنجة، التى حضرها بنفسه، وكانت تستهدف الاتفاق على عقد جلسة نيابية موحدة بمدينة «غدامس» الليبية، للإطاحة بـ«صالح» واستبدال رؤساء اللجان البرلمانية.. وبالفعل، توجه بعض النواب مباشرة إلى غدامس، بينما انسحب البعض الآخر عائدًا إلى بنغازى.
الدعوة لعقد جلسة «غدامس» كانت غير قانونية، لأنها لم تصدر عن مكتب رئيس المجلس، وخالفت الإعلان الدستورى، الذى يقضى بأن بنغازى هى المقر الدستورى للبرلمان.. وما نتج عنها من التزام بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية وفق إطار دستورى، وإنهاء المرحلة الانتقالية قبل مرور عام، كان قرارًا يفتقد إلى الواقعية، بسبب صعوبة الترتيب لها خلال تلك المدة القصيرة، خاصة ما يتعلق بتأمينها فى مناطق خارج السيطرة، مثل العاصمة طرابلس.. الإشارة للإطار الدستورى تعكس النية لاعتماد مشروع دستور الإخوان لعام ٢٠١٧، الذى لم يقره البرلمان لبطلانه إجرائيًا، وعدم مراعاته مبدأ المواطنة، وتمييزه بين المواطنين فى الحقوق والواجبات، وتضمنه تناقضات بين البنود.
تأكيد المجتمعين احترام الإعلان الدستورى، وشرعية الأجسام المنبثقة عنه، و«عدم خلق جسم موازٍ لمجلس النواب» تجنبًا لإرباك المشهد، عكَسَ وجود صفقة بين بعثة الأمم المتحدة والإخوان، تنهى دور «المجلس الأعلى للدولة»، مقابل عودة أعضاء البرلمان المنشقين الموالين للوفاق، واستبعاد «صالح» المعادى للإخوان، واستبداله برئيس أقرب لهم.. هذه الصفقة ما كان يقدر لها أن تتم دون استدراج نواب البرلمان خارج ليبيا، ما سمح للتنظيم الدولى للإخوان وأجهزة مخابرات عربية وأجنبية بالتأثير عليهم، وتغيير توجهات قطاع واسع منهم، ما أحدث تحولًا سياسيًا، ضد مصالح الدولة الليبية والبرلمان والجيش الوطنى.. عقيلة صالح أدرك ذلك مبكرًا وقام بالاتصال بالمخابرات المغربية مباشرة، مطالبًا بعدم إشراك النواب المقاطعين فى الجلسات التشاورية، لكن ذلك لم يكن مجديًا.
١١ منظمة حقوقية وجمعية أهلية فضحت دور الإخوان والمخابرات الدولية، بشكاوى إلى النائب العام الليبى، تتعلق بحصول عدد من المشاركين فى ملتقى الحوار على رشاوى مالية ضخمة من التنظيم الدولى للإخوان والنظام القطرى، مقابل التصويت لأسماء معينة للفوز بمناصب فى السلطات الجديدة.. بعثة الأمم المتحدة دعت إلى التحقيق، وطالبت باستبعاد مَن تثبت إدانتهم من الجلسات المقبلة، وحرمانهم من الترشح لأى منصب فى مجلس الرئاسة أو الحكومة.. ستيفانى ويليامز أحالت الموضوع لفريق خبراء الأمم المتحدة، وتواصلت بشأنه مع القائم بأعمال النائب العام، لكن ذلك لم يمنع استكمال المؤامرة.

اجتماعات غدامس
جرت بتنظيم وحماية ميليشيات أسامة الجويلى التابعة لداخلية الوفاق، بقيادة فتحى باشاغا، الذى شارك الإخوان التأثير على مسار المفاوضات.. سيناريو المؤامرة كان مكتملًا، إذ إنه بمجرد وصول النواب تمت دعوتهم لأداء اليمين الدستورية أمام «فوزى النويرى»، النائب الأول لرئيس البرلمان، مما قوبل برفض العديد من النواب، وانسحاب نحو ٦٠ منهم، مغادرين غدامس.. كما ثارت خلافات أخرى بين ممثلى المناطق الليبية، ما عطل النصاب القانونى لتعديل اللائحة الداخلية، وانتخاب رئيس جديد للبرلمان.. الغريب أن وفدًا مغربيًا شارك فى الاجتماع، فى تدخل مباشر فى الشئون الليبية، لم تقدم عليه أىٌّ من دول الجوار.. والأغرب كان اتصال ستيفانى ويليامز هاتفيًا بعقيلة صالح، لتطلب منه صراحة دعم المسار السياسى، والتعاون للوصول إلى حلول، من خلال جلسات غدامس، التى لم يشارك فيها، وكانت مخصصة للإطاحة به!.
الأعضاء الباقون بغدامس بحثوا إمكانية وضع دستور فى غضون ستين يومًا، أو عرض مشروع دستور ٢٠١٧، سواء للاستفتاء العام، أو التصويت من ثلثى أعضاء البرلمان.. والحقيقة أن ذلك كان هدف الإخوان لتمرير مشروعهم، والتمكن من مفاصل السلطة، مع الإبقاء على فايز السراج فى موقعه كرئيس للمجلس الرئاسى حتى لا يقتنصه عقيلة صالح، إضافة لاختيار عضوين من المنطقتين الشرقية والجنوبية، وترشيح رئيس للوزراء مقبول منهم، حيث تردد ترشيح الدكتور «محمد معين الكخيا»، وهو من أبرز الشخصيات التى تحلقت حول مشروع «سيف الإسلام القذافى» الإصلاحى المعروف بـ«ليبيا الغد»، آخر عهد القذافى، قبل الانضمام لفوضى فبراير ٢٠١١ ضمن تيار «محمود جبريل»، ميوله الصوفية ربطته بصلات وثيقة مع عارف النايض، سفير ليبيا السابق لدى الإمارات، شارك فى تنظيم لقاء «رودس» فى يونيو ٢٠١٧، الذى جمع بين شخصيات إسرائيلية وليبية، برعاية منظمة «اتحاد يهود ليبيا»، التى يترأسها روفائيل لوزون اليهودى ذو الأصول الليبية، وقد فشل المؤتمر نتيجة مطالبة اليهود بتعويضات ضخمة عن ممتلكاتهم السابقة، وهو ما رفض البرلمان التورط فيه.
لقاء غدامس انتهى باتفاق النواب الباقين على عقد لقاءين فى صبراتة برئاسة أكبر الأعضاء سنًا وأصغرهم مقررًا: الأول يوم ٢١ ديسمبر، لمناقشة بدء دورة جديدة للبرلمان مدتها ستة أشهر، وإعادة انتخاب مكتب رئاسته.. والثانى يوم ٢٢ ديسمبر، لمناقشة عدة بنود منها: إعادة انتخاب اللجان البرلمانية، وتشكيل اللجان الفنية المؤقتة، ومناقشة التعديلات المقترحة على اللائحة.. جدول الأعمال عكس تصميمًا على تحقيق هدف الإطاحة برئيس المجلس ورؤساء اللجان والهيمنة على المجلس، لكن الخلافات عرقلت ذلك.

عقد البرلمان
تزامنًا مع لقاء غدامس، عقد مجلس النواب جلسة رسمية بمقره فى بنغازى يوم ٧ ديسمبر، لبحث تطورات الأوضاع فى البلاد، وكيفية منع الإخوان من تحقيق أجندتهم، وأعلن خلال الجلسة تسلم رئاسة مجلس النواب مقارّ السلطة التشريعية الجديدة بمجمع «واجادوجو» فى سرت، تنفيذًا للمبادرة السياسية التى أعلنها عقيلة صالح من القاهرة.. انعقاد البرلمان فى بنغازى قطع الطريق أمام محاولة إضفاء الشرعية على جلسة غدامس، خاصة أن البيان الصادر عن اجتماعات طنجة أقر فى أولى فقراته أن المقر الرئيسى والدستورى لانعقاد جلسات مجلس النواب هو مدينة بنغازى.

الميليشيات، أكبر الخاسرين من جهود التسوية السياسية، حيث تتفق كل القوى الداخلية المتصارعة على إدماج من يصلح منهم ضمن القوى العسكرية والأمنية، وتفكيك الباقين ونزع سلاحهم، مما يفسر تنظيمهم مؤتمر «تجمع قادة ثوار ليبيا» يوم ٤ ديسمبر ٢٠٢٠، الذى دعا إلى تفعيل ودعم جهاز الحرس الوطنى الذى يروج له «الإخوان» عبر ذراعهم السياسية حزب «العدالة والبناء» منذ ٢٠١٤، إبان فترة ولاية المؤتمر الوطنى، وحذر المسلحون من تهميشهم فى أى عملية سياسية مستقبلية.
جهود التسوية السياسية تتعثر، نتيجة محاولات الإخوان السيطرة على مفاصل الدولة، السراج عزز وضعه السياسى بإنشاء جهاز أمنى نواته ميليشيات الردع بقيادة عبدالرءوف كارة، وذلك خصمًا من قوة داخلية باشاغا، ما يعكس عمق الصراع على السلطة بينهما، ويؤكد أن صراع القوى فى الغرب الليبى مرشح للانفجار، ما قد يطيح نهائيًا بالأمن، ويبدد سراب التسوية السياسية.