رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الحرافيش» يكشفون المواقف الإنسانية فى حياة نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

«لا يوجد مبدع عظيم إلا ويخبئ داخله إنسانًا عظيمًا».. حكمة شائعة طالما رددها الباحثون فى الحقل الأدبى والثقافى، وربما أكثر من تنطبق عليه هو أديبنا الكبير الراحل نجيب محفوظ، بحكم سيرته الحافلة بالمواقف الإنسانية التى شهد لها الجميع، وعكست تواضعه وسمو روحه ومشاعره الفياضة تجاه كل البشر.
فى السطور التالية، يتحدث مجموعة من أصدقاء «أديب نوبل»، لـ«الدستور»، عن المواقف الإنسانية فى حياة الأديب الراحل، وكيف كانت نظرته للحياة ولأصدقائه، وأبرز عطاءاته فى أعمال البر والخير، ومساعدة المحتاجين والفقراء.

إبراهيم عبدالعزيز: تكفّل برحلات حج وأضحيات سنوية للمحتاجين

كشف إبراهيم عبدالعزيز، الكاتب والباحث الأدبى، عن أن نجيب محفوظ كان يدفع تكاليف الحج للعديد من غير القادرين، ومنهم الحارس الشخصى الخاص به وأسرته، الذى عينته الدولة لحراسته بعد تعرضه لمحاولة اغتيال، وتمنى كثيرًا زيارة بيت الله الحرام، لكنه لم يتمكن من ذلك بسبب ظروفه الصحية، كما أنه كان يتبرع بلحوم أضحية لتوزيعها على المحتاجين كل عام.
ولم تقتصر أعمال الخير التى قدمها «أديب نوبل» على الأمور المادية فحسب، بل أسهم بفضل وجوده ضمن كُتّاب مؤسسة «الأهرام» فى توفير عمل للكثيرين من الصحفيين المتميزين، فضلًا عن تواضعه الشديد مع العاملين فى «صاحبة الجلالة»، وموافقته على إجراء حوارات صحفية حتى مع المتدربين والمبتدئين.
وتذكر «عبدالعزيز» أول مرة اتصل فيها بـ«محفوظ» فى الهاتف، وكان حينها يعمل صحفيًا تحت التمرين فى مجلة «المصور» التابعة لدار «الهلال»، قائلًا إنه اتصل بمؤسسة «الأهرام»، وطلب التحدث إلى الأديب الكبير، فأوصلوا الخط إليه وقال له: «أنا إبراهيم عبدالعزيز. أريد إجراء حوار معك»، فحدد له موعدًا، وأجرى الحوار معه بكل سهولة.
وأشار إلى أن توفيق الحكيم، الأديب الكبير، قال لـ«صاحب الثلاثية»: «يا نجيب بيه عزّز نفسك شوية، مش كل حد يقولك على حوار تقوله تعالى»، فما كان من «محفوظ» إلا أن قال: «توفيق بيه.. لا بد أن نشجع الأجيال الجديدة».
وعندما حصل على جائزة «نوبل»، كان هناك إقبال كبير على إجراء حوارات صحفية معه، فعينت «الأهرام» الأديب فتحى العشرى لتنظيم مواعيده الصحفية، وتحدد لكل صحفى ربع ساعة فقط، فقال «عبدالعزيز» لـ«نجيب»: «لا تكفينى ربع الساعة، فلدىّ الكثير من الأسئلة»، فطلب مقابلته فى الغد على مقهى «على بابا»، وذهب إليه هناك حيث أجرى حوارًا صحفيًا معه لمدة ساعتين.
وبعدما أصدر رجاء النقاش كتابًا عن نجيب محفوظ، قال «عبدالعزيز» للأديب الكبير: «أريد إصدار كتاب عنك»، فقال له: «رجاء النقاش جاب ضلفها.. خلص عليا.. ما بقاش فيه حاجة ممكن أكلمك فيها!»، فعرض عليه «عبدالعزيز» إعداد كتاب عن «الأساتذة» الذين أثروا فيه، فأعجب جدًا بالفكرة، وعَدّ له ٧ أدباء، ومنحه ساعتين كل يوم سبت للحديث عنهم.
وأضاف «عبدالعزيز»: «أجريت الحوارات وفرغتها، وكنت أجعله يوقع على ما يقرأ حتى تكون هناك مصداقية، والحقيقة كان يوقع على كل مقال لشخصية من الشخصيات السبع، وعقدت مقارنات ما بين الشخصيات ونجيب نفسه، فرأيت أنه كان رجلًا لا يجود به الزمن إلا كل حين».
وقال إنه فى فترة من الفترات كانت أجهزة الأمن تراقب ندوة نجيب محفوظ، وكان هناك «مخبر» يكتب تقريرًا عن كل ما قيل فى الندوة، لكنه لم يكن يعرف أسماء الأدباء والمثقفين الكبار الذين تذكر أسماؤهم داخل الندوة، فكان يشفق عليه ويكتب التقرير له، حتى لا يُعاقب هذا «المخبر»، وحين أرهق من ذلك العمل اضطر لإلغاء الندوة تمامًا وتبديل مكانها.

حسين حمودة: قرر الانتحار تعاطفًا مع صديق.. ودفع نفقات زواج وعلاج كثيرين

وصف الدكتور حسين حمودة، أستاذ الأدب العربى، المواقف التى تعبر عن الجوانب الإنسانية فى حياة نجيب محفوظ، بأنها «لا تعدّ ولا تحصى»، مشيرًا إلى أنه لم يكن يحب الكشف عن هذه المواقف من قريب ولا من بعيد، وكان يفعلها بشكل سرى، وإن كان بعضها ظهر علانية بعد رحيله.
ورأى «حمودة» أن كل هذه المواقف نبعت من تكوين نبيل لـ«محفوظ»، وتعوده بالفطرة على الإحساس بالآخرين، ومد يد العون لهم بقدر المستطاع، وهو ما وصل إلى تعاطفه مع صديق أراد الانتحار، فقرر مشاركته هذه التجربة تعاطفًا معه.
وأوضح أن «نجيب» حكى لعدد محدود من أصدقائه هذه القصة، التى حدثت فى فترة الدراسة التوجيهية «الثانوية»، عندما تشاجر صديق له مع والده، فقرر هذا الصديق الانتحار، وأتى لصديقه نجيب محفوظ لكى يودّعه، وأخبره بشجاره مع والده وبالقرار الذى اتخذه.
حاول «نجيب» أن يثنى صديقه عن قراره لكنه فشل، فقرر أن يذهب معه ليشاركه تجربة الانتحار، لمجرد التعاطف، وبعد أن وقفا يودعان الحياة خلال دقائق مرعبة، أعلى الكوبرى والنيل يجرى من تحتهما، قرر هذا الصديق العدول عن الانتحار فى اللحظة الأخيرة.
وعلق «حمودة» على هذا الموقف، قائلًا: «هذا التعاطف مع الآخرين، حتى بهذا الشكل وفى مثل هذه المحنة، ظهر فى وقت مبكر من حياته، وأثرى مسيرة نجيب محفوظ فى تعاملاته مع الأصدقاء وغير الأصدقاء، فى المحن وغيرها».
وشدد على أن نجيب محفوظ لم تكن لديه أى نزعة لحب الأموال ولا التملك عمومًا، وبعد أن وصلت الأموال إليه، عاش حياته كما كان يعيشها قبل ذلك، وظلت مطالبه بسيطة جدًا، وجزء كبير مما يملك ذهب لكل من يراه أو تراه أسرته بحاجة إلى المساعدة.
وأوضح أن هذا الخير كان يذهب للمرضى الذين يريدون الحصول على العلاج ولا يستطيعون، سواء ممن كانوا يكتبون لـ«بريد الأهرام» أو ممن لم يكتبوا، ولمن كانوا يريدون الزواج ولا يستطيعون أن يوفروا تكلفته اللازمة، مضيفًا: «شهدت مرارًا عمالًا بسطاء يترددون على نجيب ويحصلون منه على أموال».
واختتم: «نجيب محفوظ الإنسان، لم ينفصل أبدًا عن نجيب محفوظ المبدع، فهنا وهناك نجد تلك الروح الشفيفة، الباحثة عن سعادة البشر وطرق الوصول إلى حياة مريحة لهم، ونجد التعاطف مع القيم الإنسانية فى المعاملة، والمحبة والتقارب والإحساس بحق كل البشر فى العيش بكرامة واكتفاء».

نعيم صبرى: كان راقيًا مهذبًا.. ولم يرد صحفيًا أبدًا

«نجيب محفوظ كان إنسانًا أعظم منه كأديب، والجوانب الإنسانية لديه كانت عالية وراقية جدًا».. بهذه العبارة بدأ نعيم صبرى، الكاتب الكبير، حديثه عن «أديب نوبل»، موضحًا أنه كان إنسانًا فى منتهى الرقى والتهذيب والمحبة لكل الناس.
وقال «صبرى»: «بحكم عشرتى معه والتعامل بيننا لمدة ٢٥ عامًا، رأيت جوانبه الإنسانية المتعددة، فكان راقيًا وعظيمًا، وكل صفاته موجودة فى سلوكه اليومى وتصرفاته مع الناس».
وأضاف: «لم أسمعه يتكلم عن أحد إلا بكل خير، ولم يرد صحفيًا أبدًا، وكان يرحب بالجميع فى ندواته، ويحب كل الناس، وكل الصفات الحسنة تجدها فى سلوكه اليومى».

زكى سالم: اقتسم نوبل مع أسرته.. وأسهم فى زواج حارسه الشخصى

تمتع نجيب محفوظ بتواضع شديد، وتميز بحب الخير لكل الناس، وفق الدكتور زكى سالم، أستاذ الفلسفة الإسلامية، الذى أصدر كتابين عن الأديب الكبير، ووجده «إنسانًا متواضعًا جدًا ويحب الخير للناس، وأعماله الإنسانية لا تعد ولا تحصى».
وقال «سالم»: «حين تسلم جائزة نوبل بقيمتها المادية الكبيرة، اقتسمها مع زوجته وابنتيه، بحيث يكون لكل فرد ربع الجائزة، والربع الخاص به تبرع به للمحتاجين، كما أن حارسه الشخصى نال الكثير من أعماله الإنسانية، وأسهم فى زواجه وأرسله وعائلته إلى الحج».
وأضاف: «ندوته حضرها جميع الأطياف المصرية، حتى حادث الاغتيال فى منتصف التسعينيات، وكان يتعامل بطريقة تثير الإعجاب، وحين يكون ماشيًا يتوقف كثيرًا لتحية الناس والتقاط الصور معهم، ولا يرد أحدًا أبدًا، وكانت له طقوس فى جلساتنا على المقاهى، مثل دفع حساب المشروبات للحاضرين، وكان يسأل عن أى أحد يغيب، أو يزوره بعد السؤال عنه».
وطالب بطباعة أعمال نجيب محفوظ فى طبعات شعبية حتى يقرأها كل الناس، وأن يتم الاهتمام بها إعلاميًا فى كل الأوقات، وليس فى ذكرى ميلاده ووفاته فقط، مع دعوة الشباب للتعرف عليها وقراءتها، حتى يدركوا قيمة هذا «الهرم الكبير».