رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صوت الجنة.. نجل عبد الباسط عبد الصمد: بيتنا سمي بيت القرآن وتبناه «المنشاوي»

جريدة الدستور

-  نجل عبد الباسط عبد الصمد: كان عندنا كلب في البيت.. والدي أصيب بمرض السكر بعد اغتيال السادات

- حكاياته مع الرؤساء.. عرض عليه محمد الخامس الجنسية المغربية.. واستقبله ضياء الحق في المطار

- أسلم على يديه 99 شخصا في جوهانسبرج واستقبل كالملوك


هناك في الرزيقات بأرمنت، بين الجبال والخضرة وهديل الحمام وصدح البلابل ولد المقرئ الكبير وقيثارة السماء عبد الباسط عبد الصمد، وكأنه كان جزءً من الطبيعة التي ينتمي إليها، ويشكل بصوته معزوفة تضفي لهذا التكوين سحرا أكبر، أخذ من الطيور أصواتها ومن الحمام رقته وليونته، ومن الجبال خشونتها وقسوتها، ومن الزروع جمالها، ومزج كل هذا لينتج صوتا رخيما فائق القدرة والعطاء، صوتا يجعل كل من يسمعه يلين تماما وتتكون على شفته عدة حروف فينطق الله.
كانوا حينما يبدأ تلاوته يغمضون أعينهم ويتخيلون الجنة كل حسب رؤيته ويطيرون إلى رحاب من مسرة فكان يصنع يومهم، وكيف يكون يومهم بغير تلك التفصيلة المهمة التي تجعلهم يحتملون قسوة الزمن، هكذا كان عبد الباسط، خلقه الله مهونا على الناس، وقادر على نقلهم في ثانية واحدة من التعب إلى الراحة ومن الدنيا إلى الجنة، فلم يكن غريبا أن يطلقوا عليه صوت الجنة.. "الدستور" التقت اللواء طارق عبد الصمد، نجل القارئ الشهير الراحل عبد الباسط عبد الصمد وكان هذا الحوار.


ــ كان بيته في المراعزة يسمى ببيت القرآن

قال اللواء طارق عبد الباسط عبد الصمد: "والدي - رحمة الله عليه - من مواليد الأول من يناير لعام 1927، ولد بمدينة أرمنت التي تتبع الآن مدينة الأقصر وسابقًا محافظة قنا، بدأ حفظ القرآن وهو في سن صغير، حوالي في سن الـ5 من عمره، وأتمه كاملًا وهو حوالي في سن الـ10 أو 12عاما، كان ينتمي إلى بيت معروف في قرية المراعزةِ، وهذا البيت سمي بـ"القضاه" و"بيت القرآن"، عندما ذهب للكُتاب مع أخوته ميّز صوته معلمه آنذاك، وكان هو أول من تنبأ بمستقبله في تلاوة القرآن، لما لديه من صوت عذب وسرعة بديهة، وقوة في الحفظ.
كان يحب الاستماع للشيخ محمد رفعت، لم يكن لدى العائلة في الصغر راديو، فكان يضطر للمشي بعيدًا عن القرية بحوالي 5 كيلو للاستماع خصيصًا لـ"رفعت"، وأثناء عودته للمنزل مرة أخرى كان يردد ما حفظه بصوته وعلى طريقته.
- تبني الشيخ المنشاوي له

وأضاف:" إخوته أتموا حفظ القرآن الكريم والتحقوا بالأزهر، عكسه تمامًا فهو أكمل دراسته في تخصص القرآن من تعلم علوم القراءات العشرة، والـ 14 على يد المنشاوي، بجمعية المحافظة على القرآن الكريم في طنطا بدلًا من القاهرة، لقرب المسافة بينها وبين آرمنت آنذاك، حيث كانت -حوالي 50 كيلو-، والشيخ تبناه حينها، وكان يصطحبه معه في جميع الحفلات، ومن هنا بدأ يكون مشهورًا على مستوى محافظات الوجه القبلي، فكان له لونه الجديد الخاص بعيدًا عن تقليد الآخرين.


أما عن أول مرة قرأ فيها، فقد شاءت الأقدار لوالدي أن يأتي في الليلة الختامية لمولد السيدة زينب حينها لم تكن قدماه قد وطأت الإذاعة، وكان يستمع للشيوخ القدامى "البهتيمي، والشعشاعي"، وعند انتصاف ليلة القدر والمسجد ممتلئ على بكرة أبيه، رأه إمام المسجد منزوي في أحد الأركان وتعرّف عليه وطالب منه القراءة ولو عشر دقائق، تملكته الرهبة حينها كونها المرة الأولى التي يقرأ في القاهرة وفي أحد مساجد آل البيت، ولكنه شرع في القراءة، شد انتباه المستمعين وساد سكون رهيب في المسجد، حيث هناك ميزة منحها الله لوالدي وهي "حلاوة الصوت، وطول النفس"، فتحول صمتهم الرهيب لهدير من الاستحسان والإعجاب بصوته، وترديد جمل "الله يفتح عليك"، "الله أكبر"، ومن ثم خرج من المسجد مع نسمات فجر اليوم الثاني، محمولًا على الأعناق، وهذا اليوم أٌذن بميلاد قارئ جديد، وعرف حينها في مصر وبمختلف أنحاء الجمهورية، والعالم.

وتابع اللواء طارق عبد الباسط:" في عام 1951، سجل له الشيخ محمد سبيع ما قرأ في مسجد السيدة زينب، ثم قدمه في الإذاعة فقبلته دون اختبار، فعاد إلى الصعيد وأتى بزوجته وبناته الثلاث واستقر في القاهرة، وكان ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي، وكان يبلغ من العمر حوالي 20 سنة وأقام في البداية بالقرب من مسجد السيدة زينب، ومن ثم للمنيل ومن ثم جاردن سيتي، ومن ثم استقرت الأسرة في العجوزة هنا، وكان يجتمع بنا وقت العصر، ويعاقبنا بضرب غير مبرح وهو الذي دفعني للالتحاق بمعهد الدراسات في الأزهر بعد دراستي في اكاديمية الشرطة..
- حياتهم العائلية
وعن حياتهم العائلية قال: " كان يجتمع بنا وقت الغداء، وحريصًا على تحفظينا القرآن في وقت العصرية على يد أحد الشيوخ، نظرًا لارتباطاته وعدم تفرغه، كان يعطينا بعض النصائح، لم يفرض يومًا ما علينا رأيه، فكان لنا مطلق الحرية، بالإضافة إلى أنه كان عاشق لـ"النوم" وقت العصر، ويطلب مننا عدم الخروج، وفي مرة خرجت أنا وأخي وهو نائم للبحر نصطاد سمك من وراءه، وعند العودة وبخنا وحدث ما لا يحمد عقب، مضيفا أنه كان ينصحنا دائمًا بأن نتقي الله في عملنا، ونخلص فيه حتى يطرح الله البركة، وكان يريد أن يسير أحد أبنائه على نهجه في الحياة، ما دفعني لالتحاقي بمعهد الدراسات في الأزهر بعد دراستي في أكاديمية الشرطة.


وأوضح نجل الشيخ عبد الباسط: " كان يضربنا بس مش ضرب مبرح، يعني كنوع من أنواع التأديب، وفي بعض الأحيان يمنعنا من الخروج يوم الجمعة، للمسجد الإمام الشافعي معه في السيارة أصله كان يوم عيد لينا، وعندما كان يغضب أحدنا كان يبادر هو بالصلح على الرغم من خطأنا، ولذلك لم نخفي عليه شئ، وكان يمنع عننا أي شئ مخالف فقد كان يمنعنا من كل ما هو خطأ، أو يضعنا على أول خطوات الفعل الحرام، فعلى سبيل المثال كان يمنعنا من الغناء، ويقول لنا من يريد أن يغني فعليه التغني بالقرآن وليس أي شئ آخر، كما كان يمنعنا من السفر بمفردنا وركوب الموتسيكلات".

- تعامله مع الناس
ولفت إلى أن:" كان الناس ينظرون لرجال الدين على إنهم بسطاء في ملابسهم وعيشتهم وغيرها من الأمور، كانت لديهم صورة بأن رجل الدين مربي ذقنه وعمة وعباءة ويركب المواصلات، يعني مفيش نوع من التكريم ليهم، فقال نحن أهل القرآن أي نحن أهل الله وخاصته ودائمًا كان يردد "وأما بنعمة ربنا فحدث"، فكان لديه سيارة بسائق خاص، طيارة خاصة، وأنيق في ملابسه، ويتعطر، يشترط على موجه الدعوة أن تكون الدرجة أولى وفندق 5 نجوم، يعني هو لما كان يرفع من مستواه الناس كانت بتبص ليه نظرة إجلال وتقدير، على عكس التعامل مع دون المستوى أو عادي، يعني لو حتى لو الواحد معوش فلوس منظره يبعث هيبته حتى ولو كان لم يمتهن أي مهنة.

- حبه لصوت أم كلثوم والشيخ المنشاوي
وقال وأنه كان يحب الأصوات الجميلة والموسيقي والغناء غير المبتذل وحضر احتفال للسيدة أم كلثوم في إحدى الحفلات وكان جلال معوض يقوم بإذاعة هذا الحفل على الهواء ونوه إلى وجود عبد الباسط عبد الصمد ضمن المستمعين، وقال معوض بالحرف تظهر عمامة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.


كان لدينا علاقة بياسمين الخيام، والكحلاوي وولده، وفي الغناء كان يحب فيروز وصباح فخرى وأم كلثوم وسعاد محمد ومحمد ثروت، وكانت ام كلثوم كوكب الشرق هي الأقرب لقلبه من الفنانين، كما كان يحب ان يقرأ كثير في التفاسير والأحاديث النبوية، وكان يحب الشيخ الحصري والبنا، ومحمد رفعت ومصطفى اسماعيل والمنشاوي، وكانت تربطه علاقة جيدة جدا باسماعيل والمنشاوي وغيرهم، كما انه كان يحب الاستماع لقصار السور من المنشاوي مثلا، وكان يحب سور قرآنية بعينها من كل مقرئ.

- مرضه بسبب اغتيال السادات

أما عن إصابته بمرض السكر فقد تسبب فيه حادث اغتيال المنصة الشهير للرئيس محمد أنور السادات، كما أنه توفي بعدها بعامين، وجاءت تفاصيل هذا اليوم كالآتي، حيث دعي "السادات" والدي -رحمه الله- للقراءة يوم 6 أكتوبر 1981 للاحتفال بذكرى أكتوبر، ولكنه كان مرتبطًا بليلة في الإسكندرية في اليوم ذاته، وحاول أن يعتذر عن الحضور لكنهم أصروا في الرئاسة، فاشترط أن يقرأ وينصرف ولا يحضر العرض فوافقوا ولما قرأ هم بالانصراف فكان الرد انتظر يا شيخنا أغلقت الأبواب، احضر العرض وأثناء العرض كان ما كان وهرول الجميع فركب مع وزير الصحة آنذاك وأوصله إلى العتبة عند صديق لوالدي وكان رئيسا لشركة بيع المصنوعات، كل هذا ونحن نتابع ولا نعرف ما الذي حدث مع والدنا حتى اتصل بنا من بيت صديقه وأتذكر يومها ذهبت إليه بملابس أخرى بعد أن فقد شاله واتسخت عباءته بالقهوة التي كان يشربها لقد كان يوما عصيبَا.


- بيتنا الأول كان فيلا وتعرضنا للسرقة عدة مرات

أوضح اللواء طارق عبد الباسط أن والده انشأ مسجدا في مسقط رأسه بالمراعزة بأرمنت، وافتتح المسجد في عهد السادات وكان الذي افتتحه في ذلك الوقت الشيخ محمد الفحام، ومنذ عام أجرينا تجديدا على المسجد وحضرت الإذاعة لتنقل منه شعائر بث صلاة الجمعة مباشرة وكان وزير الأوقاف الدكتور مختار جمعة من ضمن الحاضرين.

- حكاياته مع الملوك والرؤساء
أما عن أول لقاء بين عبد الباسط وأحد ملوك الدول العربية فكان مع الملك الخامس ملك المغرب، فأوضح وقت افتتاح السد العالي في مصر، وكان الملك الخامس مدعوا من قبل الرئيس جمال عبد الناصر، وقرا الشيخ واستمع إليه الملك واعجب به إعجابا شديدا حتى أنه طلب من عبد الناصر أن يرافقه الشيخ عبد الباسط في زيارته لمساجد آل البيت بالقاهرة، وبالفعل لبى عبد الباسط طلب ملك المغرب وكان يذهب معه إلى المساجد ويقرا هناك وكان الملك يطلب منه قراءة بعض السور المعينة مثل سورة مريم او قصار السور او سورة الرحمن وعقب انتهاء الزيرة عرض الملك محمد الخامس على الشيخ منحه الجنسية المغربية والإقامة طوال حياته وأسرته بالمغرب، وأثنى الشيخ على طلب الملك ولكنه برفض بذوق وقال له انه ينتمي إلى مصر قلبا وقالبا.

وحينما انتقل الملك محمد الخامس للرفيق الأعلى، طلب الملك الحسن وريثه الشرعي لعرش المملكة المغربية ان يحضر مراسم العزاء في المغرب وبالفعل حضر الشيخ المراسم وقرأ القرآن في ذكرى الأربعين أيضا وقال لهم سأقوم بتسجيل القرآن كما يقرأه أهل المغرب وسأهديها إلى الملك الراحل.

أما عن حكايته مع الرئيس الباكستاني "ضياء الحق" فكان هناك وفد من الازهر سيزور باكستان وكان الشيخ عبد الباسط مع الوفد، فلما علم الرئيس الباكستاني ان عبد الباسط قادم إلى باكستان طلب منهم أن يستقبله بنفسه في المطار، ولكن الحكومة الباكستانية رفضت وقالت إن هذا مخالف للبروتوكول، ولم يمتثل لهم الرئيس ضياء الحق وأصر على استقبال عبد الباسط بنفسه وبالفعل استقبله ومنحه وسام باكستان.

- أول مقرئ يسافر لجنوب إفريقيا

وكان عبد الباسط عبد الصمد أول مقرئ مصري يذهب للقراءة في جنوب إفريقيا، كان ذلك عام 1966، وحين طلبت جنوب إفريقيا عبد الباسط من مصر بدعوة رسمية اعترضت الحكومة المصرية لعدم وجود تمثيل دبلوماسي لمصر هناك في ذلك الوقت، حتى أنه لم يكن هناك طيران مباشر بين الدولتين، ولكن أرسلت جنوب إفريقيا بيانا توضح فيه أنها ستحيطه بالرعاية اللازمة وسيكون تحت مظلة الحكومة هناك وبالفعل سافر عبد الباسط غلى جنوب إفريقيا عن طريق كينيا.

واستقبل في جوهانسبرج استقبال الملوك بسيارة مكشوفة راحت تجوب العاصمة وحولها أكثر من ثلاثون سيارة أخرى إلى أن وصل إلى محل إقامته، وكان كل يوم يذهب إلى محافظة ما ليحيي حفلا ويستمع إليه المسلمين، حتى أنه أسلم على يديه في تلك الرحلة 99 شخصا، وافتتح هناك مركزا باسم عبد الباسط عبد الصمد لتحفيظ القرآن الكريم، كما أن هناك شابين جاءا له من إفريقيا، وكانا هنا يحفظان القرآن ويتعلمان اساليب التلاوة والتجويد وكان السيخ يحاوطهما برعايته.


- علاقة وطيدة بالأقباط

كانت تجمع الشيخ عبد الباسط علاقة وطيدة ببعض المسيحيين، كان يحترمهم ويحبهم ومنهم صديقه الدكتور إبراهيم رزق صاحب صيدلية ف بأرمنت والدكتور وصفي بطرس والذي انتقل بعد رحيل الشيخ للقاهرة وافتتح له صيدلية بالزمالك، وكانوا يحبونه لدرجة ان وصفي بطرس حينما توفي أبي، بكي عليه اكثر مما بكى على أهله وكانوا يحبون الاستماع الي الشيخ في سورة مريم وال عمران بصوت الشيخ.
- صوت الحكمة لقبه في السعودية

أما عن تلقيبه بصوت الحكمة، قال نجل الشيخ الراحل ففي الحقيقة أنا أول مرة أسمع هذا اللقب على والدي، ولكن أهل المملكة العربية السعودية لقبوه بعدة ألقاب من بينها صوت الجنة، وصوت مكة، وصوت من ألحان السماء، وقيثارة السماء، وهذا اللقب المذكور سلفًا، نظرًا لشدة عزب وجمال صوته في تلاوة كلام الله.

اما عن وفاته فكانت كالتالي، كان الشيخ قد تعرض لحادث على طريق البغدادي بالأقصر أثناء توجهه إلى إسنا لإحياء حفل زفاف مما أصابه في عينه، فعولج في الأقصر وانتقل بعدها للقاهرة، اما وفاته فكانت بسبب البلهارسيا التي اصيب بها في صغره وأثناء إقامته بالمراعزة بأرمنت بصعيد مصر، وظهرت عليه أعراض التهابات الكبد بجانب مرض السكر الذي أصيب به بعد اغتيال السادات في حادث المنصة الشهير.

واذكر اننا توجهنا لعلاجه بلندن في نوفمبر 1988، واختارني أبي دونا عن أخوتي لمصاحبته في رحلته العلاجية، وعندما أحس بأن العلاج لن يفيد، طلب والدي مني العودة به إلى مصر لمعرفته بدنو أجله، أنه كان يحب الموت ببلده مصر، وبالفعل بعد العودة بحوالي 4 أيام، توفي رحمه الله في آخر يوم من شهر نوفمبر وكانت جنازته مهيبة ونحمد الله تعالى على أن كرمنا بأن جعلنا من ذرية الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، الذي جاب العالم من أوله لآخره؛ ليسمع الناس كلام الله بصوت عذب، مات والدي رحمه الله ومازال صوته يملأ الدنيا شرقا وغربا.